خاص - مجلة القدس، تصريح الرئيس عباس لصحيفة مصرية بأنَّ الأنفاق بين قطاع غزة وسيناء ولَّدت 800 مليونير جديد في قطاع غزة، حرّك أيضاً التساؤل في الشارع الغزي، حول جدوى العمليات المصرية على الحدود ومصداقية إغلاقها للأنفاق بعد عملية سيناء التي راح ضحيتها 16 جندياً مصرياً منتصف شهر رمضان الماضي، كما حرّك الهمس الدائر حول كون الرقم أعلى بكثير من ذلك ويتجاوز الألفي مليونير في ظل أيام صعبة تمر على المواطنين في قطاع غزة، فلا كهرباء، ولا ماء ولا فرص عمل، ولا إعمار لما هدمه الاحتلال، مع ارتفاع متواصل في أسعار السلع والخدمات وارتفاع متضاعف لنسبة البطالة وفي ظل كل ذلك يكبر السؤال.. أين، ولمن تذهب الأموال التي تأتي لدعم صمود أهل غزة، والتي تنهال على القطاع من كل حدب وصوب؟

 

الانفاق: جهود الفقراء ومكسب الأثرياء

قدَّر أبو خالد وهو عامل في أحد الأنفاق في حديثه للـ "قدس" أنَّه يوجد أكثر من 1200 نفق يمتد على طول الشريط الحدودي لرفح، حُفرت منذ عام 2006م، حين فرض الحصار البري والبحري الإسرائيلي على قطاع غزة، مؤكداً أنَّ تجارة الأنفاق هي "تجارة الموت"، يعلو فيها القوي على أكتاف العمال الضعفاء أولاً، المعرضين للموت في كل لحظة جراء انهيار النفق أو حدوث تماس كهربائي أو قصف إسرائيلي، ومن ثمَّ حين تصل البضاعة إلى المواطن فهم يمتصون دمه بسعرٍ مضاعف.

وقال أبو خالد الذي رفض أن نذكر اسمه، أن "الأنفاق وتجارتها وجميع ما يرد منها تحت إشراف ورقابة هيئة الأنفاق التابعة لحكومة حماس في غزة، فمثلاً بلدية رفح تفرض ضريبة على صاحب النفق حوالي 100 ألف شيقل كي تدخل له الكهرباء إلى النفق، بالإضافة إلى ضرائب البضائع". ولفت أبو خالد إلى أنَّ ثمن جلب كيس واحد من الكماليات زنة خمسين كيلو غراماً تبلغ 800 دولار، ونقل حمولة محددة من مواد البناء أو من المحروقات، أو عدد من السيارات المسروقة من مصر قد يصل إلى مليون دولار تذهب  لجيب صاحب النفق والعامل لا يحصل إلا على أقل القليل، على خمسين شيقلاً أو مائة شيقل في اليوم بالكاد يتحصل منها على قوت أطفاله، مشيراً إلى أنَّ كسوة أطفاله وأمثاله كثيرون من سوق المستعمل.

وتابع "سابقاً  كان العامل يحصل على 100 دولار يومياً، ولكن الآن الجميع في ظل الوضع المر والبطالة والفقر الذي ينهش الشباب قبل الشيوخ، توجهوا للعمل كحمالين للبضائع من الأنفاق، وأنا شخصياً أودع أولادي كلما ذهبت للعمل لأنني أتوقع ألا أعود".

أمَّا سالم، وهو خريج جامعي مختص بسحب البضاعة من النفق، فقال للـ"قدس": "نسحب مواد غذائية وبضائع بكافة أنواعها المشروعة والمحرّمة، وحبوب الترامادول والآكسس، والحشيش، تدر المزيد من الأرباح على مليوناريي الأنفاق. فالأنفاق أفرزت فئتين متفاوتتين في المجتمع الغزي، حيث زاد فقر الفقراء اللامحظوظين فقراً، وزاد غنى الأغنياء غنىً، بل ورفع المحظوظين -أغنياء وفقراء- الذين يجاورون الشريط الحدودي الفاصل بين قطاع غزة وجمهورية مصر العربية، سواء من خلال أراضٍ يمتلكونها هناك، أو من خلال بيوتٍ يتخذونها مساكن لهم، ليصبح كثيرٌ منهم من الطبقة البرجوازية التي تتحدث بملايين الدولارات والشواقل".

وأضاف "شبان قطاع غزة يعملون في الأنفاق لاثني عشرة ساعة من أجل أن يحصلوا على خمسين شيقلاً، وصاحب رأس المال هو الذي يحصُد أموالاً لا تحصى، وفي كل الحالات تستفيد حكومة "حماس" بغزة من ذلك، حيث تحصد الضرائب ليل نهار، على كل قشّة تدخل القطاع".

الشاب س.ح "24 سنة" قال للـ قدس "ذهبت للعمل في الأنفاق بعد أن أتممت عامي الجامعي الثالث في كلية التاريخ، فالوضع المالي لم يساعدني على إكمال دراستي، وقد عملت في مجال "العتالة"، لقاء مائة وعشرين شيقلاً في بداية العمل مقابل ست ساعات عمل متواصل، إلا أن صاحب النفق لم يعطني إلا نصف المبلغ مقابل ما يزيد عن إثني عشرة ساعة من العمل باليوم، فتركت العمل ولمَّا لم أجد بديلاً عدت له".

ووفق آخر إحصائية أجراها مركز الميزان لحقوق الإنسان نهاية العام الماضي، فقد وصل عدد ضحايا الأنفاق إلى مائة وسبعة وتسعين قتيلاً، بينهم عشرة أطفال، إلى جانب خمسمائة وثلاثة وثمانين مصاباً تراوحت حالاتهم ما بين إصابات طفيفة تمَّ التعافي منها، وأخرى وصلت إلى إعاقاتٍ دائمة.

 

دور الانفاق في خلق الهوة الاقتصادية في غزة

وفي قطاع غزة وبحسب تقديرات دراسة علمية أُجريت حديثاً، وصل عدد المليوناريين الذين أفرزتهم تجارة الموت إلى ستمائة مليونير، ذهب عدد منهم بعد ارتفاع رصيده على أكتاف الفقراء إلى افتتاح المشاريع السياحية رغم انعدام السياحة بقطاع غزة، ولإقامة عشرات المجمعات الاستهلاكية والمولات التجارية، مما أفرز أيضاً ظاهرة احتكار العملة من قِبَل الصرافين وتجميدها لحساب هذه الفئة، وارتفاع أسعار الأراضي والشقق السكنية بشكلٍ مرعب.

أحد رجال الاقتصاد السابقين، رفض أن نذكر اسمه أيضاً قال للـ"قدس" لم يُسهم هؤلاء المليوناريون الجدد في أيِّ مشاريع تخدم المواطنين أو توفر فرص عمل، وإنما عملوا على تشجيع الاحتكار والاستغلال وتحكموا في أسعار الأراضي والعقارات في إطار عمليات غسيل الأموال، وتحول بعضهم من سائق عربة يجرها حمار، إلى صاحب أسطول من السيارات الفخمة، ومنهم من شيَّد أبراجاً ارتفعت في الهواء على جثث أولئك الذين قضوا تحت الرمال وقدِّر لهم أن يُدفنوا مرتين، وغيرهم من الذين انضموا إلى قائمة ذوي الاحتياجات الخاصة خلال رحلة البحث عن رزق أولادهم دون جدوى.

معالم الثراء تطفو على السطح في غزة، أبراج ترتفع ومعارض سيارات حديثة وفخمة يتم افتتاحها، ومشاريع هنا وهناك، وأراضٍ شاسعة أحيطت بالسياج وتحولت إلى عِزَب، جلّها يعود لأصحاب الأنفاق، وفي الجانب الآخر أناسٌ حُرم أولادهم من سترة تحميهم من برد الشتاء، يرتادون مدارسهم بملابس خفيفة لعجز آبائهم عن ملاحقة الأسعار الخرافية مقارنة بسنوات مضت كانت فيها الأسعار بأسواق غزة ملائمة لكل الفئات الاجتماعية.

ويُشار هنا إلى أنَّ حكومة غزة أتاحت المجال أمام أصحاب الأنفاق من خلال جملة التسهيلات التي قدمتها لهم، والتي كان أعظمها "ترخيص الأنفاق"، التي تعتبر وسيلة تهريب، ومصدر دخل غير شرعي يُحاسب عليه القانون في كافة أرجاء المعمورة، حيث بدأ أصحاب "الموت"، بالاستفادة من هذا الواقع، مستغلين احتياجات المواطنين في قطاع غزة التي تقدر بمليار دولار سنوياً، والتي تشمل كل ما يتعلق بالمواد الأساسية والخام.

وبحسب تقديرات محللين وخبراء اقتصاديين، تجاوزت نسبة البطالة في قطاع غزة في الآونة الأخيرة الـ 44%، لتتخطى بذلك أعلى نسب للبطالة على مستوى العالم، وما زالت بازدياد، لاسيما وأنَّ الجامعات الفلسطينية تقذف بأربعين ألف خريج سنوياً إلى سوقٍ خالٍ من العمل.

ونظراً لهذه الحالة التي خلقت فئة "تحت العدم"، وتحت خط الفقر المدقع في غزة، بدأ الشباب الذين لا يفكرون بالهجرة ولا يمتلكون مقومات للعمل خارج قطاع غزة، في التفكير بوسائل للتخلص من معاناتهم ومشكلاتهم، وعلى رأسها انتهاج نهج "بو عزيزي" التونسي، الذي أحرق نفسه مفجراً الثورة التونسية ضد نظام بن علي، فأقدم الشاب إيهاب أبو ندى "17 عاماً"، على إحراق نفسه، من أجل التخلص من واقع الحياة المرير الذي يعيشه وأسرته، وكذلك حاول شابٌ آخر إحراق نفسه لنفس الأسباب.

وأضحى الشاب الغزي، غير قادر على بناء أسرة،  فإلى جانب مشكلة الغلاء الرهيب، تبرز مشكلة الارتفاع الرهيب لأسعار الشقق السكنية.

وكانت وزارة الاقتصاد الوطني التابعة لحكومة "حماس" بغزة، قد أشارت إلى أنَّ حجم واردات القطاع عبر الأنفاق تأثر بعد إقدام السلطات المصرية على إغلاق عشرات الأنفاق عقب حادثة سيناء، موضحةً أن ذلك أثّر سلباً على الوضع الاقتصادي في غزة، وكأن الوضع كان على خير ما يرام، وفي أحسن أحواله.

وأكدت أنَّ نسبة دخول الواردات الشهرية عبر الأنفاق من المواد الإنشائية انخفضت بنسبة 45%، نتيجة هدم الأنفاق والتضييق على دخول المواد عن طريق الأنفاق المتبقية، وأن نسبة دخول المواد الأساسية كالطحين والأرز والسكر والقمح انخفضت بنسبة 31%.

الخوف الذي يسيطر على الناس في القطاع، جعلهم يفقدون حتى رغبتهم على الاحتجاج، كيلو البندورة وصل 7 شواقل أي 2 دولار، كيلو الدجاج وصل 14 شيقلاً ماذا أطعم أولادي؟ قال أحد عمال النظافة للـ "قدس"، مطالباً الزهار "الذي يتشدق بأن غزة بخير أن يتفضل و يتنكر ويركب سيارة على الخط ويسمع ماذا تقول الناس".

الخضرجي أيمن أشار لنا إلى بسطة الفواكه قائلاً: "الناس مش متل زمان، بس بتيجي تتفرج، ما حدا كتير بيشتري، الله يعين الناس، بس التسعيرة علينا غالية من المورِّد، كمان إحنا بدنا نطعمي أولادنا".

الخريج الجامعي "سالم" الذي قابلناه عند فوهة أحد الأنفاق، طلب منا مغادرة المكان قبل أن يحضر صاحب العمل، معلِّقاً: "غزة منتهكة في كل شيء، حبوب الترامادول والآكسس، والحشيش أغرقت السوق، قتلت الشباب وتدر على تجار الموت مزيداً من الأرباح، غزة لا اقتصادها بخير، ولا شبابها ولا ثقافتها، ولا أهلها.. فساكنوها أصبحوا أتباعاً رافضين صامتين لا يستطيعون النطق ببنت شفة في ظل الصمت العالمي المطبق على جميع الفظائع التي ترتكب بحقِّ البشريةِ فيها، الموت هنا أرخصُ السلع والمهن وأكثرها وفرةً، أعانها الله، وأعان المحترقين فيها، ومن هم على وشكِ الاحتراق!!".