لماذا تغيظ النجاحات الكثير من الناس؟ ولماذا لا يتقبلون أن يتقدم أحد؟ ولماذا تصور النجاحات من غيرهم وكأنها هزائم؟ وتقلب الصورة فتصبح الهزائم انتصارات ام هم فعلوها؟ هل العلة في الظروف الموضوعية أم العلة ذاتية شخصية؟
اعتاد العرب في مخازيهم وحروب الردة على الحق أن يصوروا ما فشلوا به كمباهج وانتصارات عظيمة، يقيمون لها الانتصارات السنوية وهي في المحصلة صفر؟ والعكس إن كانت للآخرين.
بالعودة للتاريخ العربي نستطيع أن نشهد انتكاسات وهزائم ولطميات وتراجعات مدوية وهزائم صاخبة لكنها عندما يكتبها السلطان أو الخليفة أو الزعيم يعدها نقطة تحول ونصرا عظيما ومكسبا شعبيا ولا يعترف بالإخفاق إلا متى دهمته الجماهير، وقلما يثوب أمثال هؤلاء لرشدهم قبل فوات الأوان !
تم القضاء على الدولة المركزية في الصومال وتتصارع الأحزاب التي يدعي كل منها أنه (إسلامي) معا فيطيح كل منهم برأس الآخر في (انتصارات)موهومة لا يقل عنها ما حصل في السودان من انفصال جزء كبير منه فداء لبقاء النظام (الإسلامي) الذي قهر الجنوبيين حتى ملوه وأسقطوه والحبل على الجرار.
في النموذج المتطرف الجزائري، والطائفي اللبناني والمنقسم الفلسطيني نماذج أخرى لتصوير الأحزان على أنها أفراح ومكاسب، وتصوير الانحدارات والمخازي على أنها انبعاث ونهضة وتقدم ونصر مبين كما هو النصر بانقلاب غزة، ومذبحة غزة والدولة ذات الحكم المحدود في الضفة تحت الاحتلال.
ربما ما نعانيه كعرب مرض نفسي أو عقدة مستأصلة لا نستطيع معها إلا أن نخوض المعارك حتى على التلفزيون-أو بالأخص على التلفزة- لنسجل انتصارات لنا أو هزائم لغيرنا بعيدا عن ميدان الصراع الحقيقي الذي تلعب فيه باقي الأمم وهو الصراع الاقتصادي والحضاري والثقافي.
عندما أصيبت دبي بنكسة اقتصادية مؤقتة تشفّى بها عدد من الأشقاء وذلك بدلا من أن يهبوا لنجدتها أو ليدعموها أو ليفتخروا بما حققته من انجازات هائلة.
وعندما استطاع لبنان أن يجمع شتات ذاته ويحكم نفسه بنفسه، أبى بعض الأعراب إلا أن يدوسوه تحت سطوة وجبروت (ولاية الفقيه) وكأن قدرنا استمرار الهزائم من الاستعمار القديم أو الحديث فنفرح بتقسيم العراق ولبنان وفلسطين والسودان والجزائر وغيرها ونقيم الاحتفالات لمخازينا التي نسميها انتصارات.
لم يجد أصحاب قناة الجزيرة ما يفعلونه، وسمة الأعراب نهب وغزو وهزائم تسمى انتصارات، إلا أن يميطوا اللثام عن مآسيهم وهزائمهم النفسية عبر عقلية الغزو والنهب والسلب والغيظ من نجاحات الفلسطينيين وان قلّت، ومن أسهل من الديار الفلسطينية لغزوها، حيث المقاومة دفنت والبندقية حيدت والثورة التي كانت تغيظ العالم وتخوفه قد انطفأت شعلتها، بل وزادت الطين بلة بانقسامها وانشقاقها بحيث يستطيع أي كان صغر أو كبر أن يضع الملح في الجرح فيؤيده البعض الفلسطيني ويناهضه الآخر.
لقد جاءت غزوة الجزيرة الجديدة في ذات الاتجاه تقتيلا وتشويها وسحقا ونهبا للعقل والوعي عبر ساحة المعركة الافتراضية الجديدة وهي الإعلام المفتوح الذي يغزو كل بيت، وعقول الناس التي ظنوها مستباحة فجاءوا بحملهم الثقيل من أسفار محمولة على ظهور الحمير ليلقوها بجو درامي في وجه الناس بأشكال معروفة من التضليل الإعلامي والكراهية وفي محاولة لتحقيق انتصارات وهمية، حيث التلفيق والاجتزاء والتضخيم والاتهامات والتشويهات والانتقاص والتحييد والتبهير مما يعلمه السياسيون والإعلاميون وقد يغيب عن المواطن العادي فيخدع أو يستلب وعيه أو على الأقل تشوه الحقيقة أمامه فيشك وهو المطلوب لتصبح الغزوة انتصارا.
ما عرضته الجزيرة مما سمته وثائق يتم الرد عليها تباعا من قبل القيادة الفلسطينية والتي إن كنا لا نتفق مع بعض مواقفها إلا أننا والعالم والعرب وحتى الطرف الآخر الفلسطيني وهو حماس وعلى لسان قائدها الأول كانت قد أشادت بمواقف الرئيس أبو مازن وطالبت بدعمه في صموده على الثوابت الواضحة والجلية الآن بوقف المفاوضات لأول مرة في تاريخها على قاعدة وقف الاستيطان والاعتراف بحدود الدولة.
إن عقلية الغزو والنهب والاستلاب لا تعترف بنجاحات الآخر مهما صغرت، وكل ما تسعى له هو سحقه وغنم ما يملك، فلا معركة القدس المتواصلة ولا معركة فلسطين في الأمم المتحدة ولا معركة الاعترافات بالدولة الفلسطينية ولا معركة القيادة الفلسطينية مع الحكومة الإسرائيلية والتي بدأت تؤتي ثمارها تعني للغازي شيئا، فلا اعتراف بمكاسب الآخر ولا قاعدة إلا نهب الديار وسلب الأغيار وتشتيت الأسر كما هو الحال في التاريخ العربي الجاهلي والتاريخ العربي-الإسلامي في جزئه الجاهلي أيضا.
ألم يكن الأفضل أن تضع قناة الجزيرة كل ثقلها لنصرة قضايا الأمة العربية لا اشاعة الفتنة والفرقة في كل بلد عربي تحت مسميات الاعلام الحر الملفقة؟! ألم يكن من الأدعى لقناة الرأي (الواحد) أن تتجهز لدعم المفاوض الفلسطيني في معاركه المختلفة حتى بالنقد الهادف لا أن تدبر المؤامرات بليل بهيم ؟! وألم يكن من الأفضل ألا تبقى نسبة دعم القدس التي قررتها القمة العربية عند حد 7% فقط فتثيرها الجزيرة مستجلبة الدعم بدلا من التعمية على هذا الاخفاق العربي العظيم؟! أم أن المعركة هي للتحلل من الالتزامات المالية والاقتصادية والتنموية والعربية النفسية أيضا بدعاوى التخوين والانحراف والتشهير بالقيادة الفلسطينية؟ فلا مبرر لدعم ولا مبرر لدفع أي مبلغ قد يضر بالـ37 مليار التي ستصرفها قطر على المونديال؟!
إن التساوق الاميركي الإسرائيلي الحالي سيجد له حصان طروادة فيما فعلته الجزيرة، وسيجد أعداء الأمة فرصتهم لدس أصابعهم في الجراح كما كان حال الفرس والروم في عهد بائد يتجدد.
نعم قد يكون المفاوض الفلسطيني قد أخفق في مواقع محددة، ونعم نريد منه مزيدا من الصلابة، ولا يضيرنا شيء أن يتم تغيير طاقم المفاوضات في كل مرحلة، ونريد من يعارضون أن يظلوا معارضين كي لا ينهار الموقف ولا تغيب الرؤية، ولكن غشاوة التشهير والاتهام والتخوين والتكفير وادعاء الانتصارات على الآخر ضمن عقلية الغزو التي ينسجها أعداء الأمة وأعداء ذاتهم ستكون خنجرا في خصر فلسطين والأمة.
هل حقق السياسي الفلسطيني نجاحات، نعم وبكل وضوح استطاع أن يحقق ما يمكن البناء عليه استكمالا لمسيرة التمسك بالثوابت التي استشهد القائد الخالد الزعيم ياسر عرفات دونها، والتي ستظل وديعة معلقة في رقبة الرئيس أبو مازن والقيادة الفلسطينية التي لن تقبل أن يتخلل منها أو تتهرب من الالتزام بها مهما كان حجم الغيظ والكبت النفسي والتآمر والطعن والافتراء وتلفيق الوقائع والدس الذي تقوم به قناة الجزيرة أو من سار على دربها.
وستبوء غزوة الجزيرة للعقل العربي والفلسطيني بالفشل فالناس ليست أغناما يسوقها الاعلام كما يظن البعض الى حيث يريد بعيدا عن الحقيقة، بل تستطيع أن تدرك الحقائق حتى مع صيحات وصراخ مذيعي الجزيرة المحرضين على خلفية موسيقية صاخبة