بقلم/ عضو المجلس الثوري المحامي لؤي عبده

لم يقف كل الفتحاويين خلف اتفاقية أوسلو التي جاءت بالحكمالذاتي على بعض المناطق في قطاع غزة والضفة الغربية، حيث بدأت بتنفيذ الحكم الذاتيفي غزة وأريحا أولا، وبالتدريج المتعثر والابتزاز حتى توسعت لتشمل باقي المدن وبعضالمناطق.

وكان اتفاق أوسلو يتناقض مع ثقافة الشعب والثورة والمنظمة،بل كان منعطفا حادا في تاريخ العمل النضالي دون رغبة من أحد، بل كان الكثيرون غير متفائلينمنه؛ لإبقائه الاحتلال صاحب الكلمة ومصدرا للسلطات، فكان اتفاق أوسلو مفاجئا ولا يفيبالحد الأدنى من الحقوق الوطنية.

أوسلو كانت محطة لها تداعيات هامة في فلسطين والوطنالعربي والعالم، ودفعت فتح ثمنه غاليا من رصيدها النضالي وسمعتها التاريخية، ومصداقيتهاالعالية؛ لأن الوعي الوطني العام متباين، وكثيرون من أبناء شعبنا لا يعتقدون أن الحربالسياسية  مثل الحروب الأخرى، علاوة على اعتبارالبعض أن الاتفاق مخالفة  لعهود الثورة، بلخيانة، وهناك من اعتبره مساومة أو حتى هزيمة، ونتيجة للموقف غرق العمل الفلسطيني فيبحر من الاجتهادات والجدل والإدانات وانعدام الثقة.

وقد اندمجت قواعد حركة فتح في هذا التحول غير الواضحلها، وزاد الأمر سوءا عندما بدأت طوابير الشباب تتحول من النضال إلى العمل الوظيفي،فيما يمكن توصيفه بأنه الصراع على سلخ دب لم يتم اصطياده بعد!

يمكن  اعتبارالواقع الذي نجم عن أوسلو بأنه انتصار للعدو في تطبيق نظرية الاحتواء على الأرض، وكانتالتحولات الاجتماعية والاقتصادية الناجمة عن أوسلو صعبة الفهم على البعض الذي وجد نفسهفي خضم الحياة السياسية وفقط، بعد أكثر من نصف قرن على العمل النضالي بالطرق التقليدية.

لم يدم الأمر على هذا الحال طويلا؛ فقد أخذت التنبؤاتمجراها، فميدان العمل في فلسطين مختلف عما كان في المنافي، ففي فلسطين تبقى الثقافةالوطنية من أجل التحرير راسخة لا تخضع للأهواء أو ثقافات لم تجد لداخل الأرض الفلسطينيةسبيلا للوصول.

وحسب اجتهادات البعض؛ حققت أوسلو بعض المكاسب أمام واقعكان صعبا وحصار كان طويلا تم فرضه من قوى إقليمية على منظمة التحرير الفلسطينية والعملالتحرري برمته – رغم انطلاق الانتفاضة في الوطن المحتل-، وقد كان لمهندسي السياسة الفلسطينيةرؤية  ترصد  انتقال مركز الثقل في الصراع من المنافي إلى الوطن،في ظل التغيرات الإقليمية والدولية، فالأرض الفلسطينية تتحول بالفعل إلى مركز صناعةالحرب والسلام، بالانتفاضة والمقاومة والبناء السياسي والاجتماعي، وعلى الآخرين استيعابما آلت إليه الظروف بهذا الشكل.

لم تكن المسألة اتفاقا عابرا؛ بل تحولا كبيرا في بنيةوكيانية النضال الوطني و مستقبله، وانتهاء لعصر بكامله من واقع القضية والشعب. وكانالعالم يريد من هذا الاتفاق أن يبني حلا يدعمه القانون الدولي وحل النزاعات عبر المجتمعالدولي الذي عبر عن استعداده لتقديم الدعم المالي و الاقتصادي والسياسي و الإداري،وبهذا يكن العمل الفلسطيني محكوما بمعايير دولية يخضع لها.

الصراع الذاتي يتمركز حول مفهوم مغادرة ثقافة الثورةوالمقاومة، والانتقال إلى مفهوم السلطة والمفاوضات وسيلة وحيدة لتسوية الصراع، والقبولبشروط البنك الدولي الذي يفرض على الدول وحكوماتها الالتزام بسياساته كي يقدم لها القروضوالهبات والمنح المالية والاقتصادية.

نضالنا الوطني الذي لم يحقق أهدافه دخل ممرا طويلا وصعبالن يستطيع أن يتأقلم معه أحد طالما لا يوصل إلى حقوق وطنية عادلة أقرتها كل المواثيقوالأعراف وقوانين المجتمع الدولي.

وبالرغم من تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية بموجب اتفاقيةأوسلو؛ بقيت الحقيقة على ما هي عليه وإليها تتجه الأنظار، ولا يمكن لأحد أن يتجاهلهاألا وهي استمرار وجود الاحتلال ولزوم انتهائه باستيطانه البغيض، والوصول بالقضية الفلسطينيةإلى الحرية و الاستقلال.

وقد تأكد الجميع من هذا عندما انطلقت انتفاضة الشعبالثانية عام 2000م، وانفجرت تلك الحقيقة مرة أخرى في وجه الجميع المنقسم أصلا في طريقالتسوية من حيث المفهوم أو السلوك.

فلسطين لا يمكن إخضاعها لمشاريع سياسية مؤقتة، أو حتىفئوية تخدم وجهة نظر معينة، لأن فلسطين تقرر وتحدد وتكسر، ومن لا يفهم ذلك ستعصف فيوجهه الروح النضالية الوطنية وسيكون عبرة لمن لا يعتبر.

حركة فتح التي دفعت الثمن من لحم و دم أبنائها وكوادرهالبناء السلطة استشعرت الخطر عندما أخذ زعماء الاحتلال الإسرائيلي وحلفائهم في الغربوأمريكا يتجاهلون مصير شعبنا وحقه الوطني في بلاده ووطنه، حينها وقع صدام الإراداتبيننا وبينهم، وخرج إلى الشارع كل أبناء الشب الفلسطيني في انتفاضة شعبية تنامت منأعماقها تيارات مسلحة اندفعت صوب الاحتلال والاستيطان في معركة استمرت لعشرة سنواتكاملة  ذبح فيها أبناء شعبنا وفرض عليهم أمرواقع جديد بجدار الفصل العنصري ونظام "الأبرتهايد" الإسرائيلي.

رأت  حركة فتحأن انتفاضة الأقصى انطلقت للدفاع عن القدس والمقدسات الإسلامية والمسيحية، بعد أن قامت  حكومة الاحتلال بالالتفاف على مفهوم الحل الانتقالي،وفشل كل المحاولات والمساعي للانتقال إلى الحل النهائي، وفرض سياسية الأمر الواقع منجديد – علما بأن السياسة الإسرائيلية لم يطرأ عليها أي تغيير أصلا حتى أثناء التوقيععلى أوسلو- وبالرغم من رعاية واشنطن للمفاوضات الطويلة (كامب ديفيد).

يمكن اعتبار العام 1999 عام انتهاء اتفاقية أوسلو بجمودهاوعدم الوصول بها إلى سلام نهائي يضمن للشعب الفلسطيني حريته واستقلاله، وإنهاء محاولاتالتهويد للمدينة المقدسة والاستيطان والسياسات القمعية وغيرها.

رفض شعبنا كل المظاهر الاحتلالية التي لم تتمكن اوسلومن إلغائها، أو حتى تلك التي كانت نتاجا لأوسلو كآثار سلبية فعبر عن نفسه بانتفاضةحمراء، وحاولت تيارات قتالية مسلحة أن تقودها وأن تفرض وقائع جديدة على الأرض، داعيةللعودة إلى طريق الكفاح المسلح وسيلة وحيدة لإنهاء الاحتلال

هنا اعتبرت حركة فتح أن تجربة جديدة قد خرجت إلى السطح،وأصبح هناك ما يمكن تسميته بنظرية السلطة والمقاومة، لكن الاحتلال استخدم فلسفته فيالقمع والتدمير، وسعى إلى إلحاق الأذى غير المسبوق بشعبنا، وعمل على تشويه نضالنا بربطهبمفهوم الإرهاب الذي تصاعد في تلك المرحلة بفعل أحداث سبتمبر، فكان حجم الخسائر غيرمسبوق (ماديا – وبشريا) وأمنيا.

أصبح هناك ما يسمى بجدار الفصل العنصري، وقامت قواتالاحتلال ببنائه على طول الأرض المحتلة وعرضها، وأسفرت عن القضاء على التواصل السكانيوالجغرافي والاجتماعي والاقتصادي وإثقال الحياة في المجتمع  بهموم إضافية لم تكن موجودة بشكلها وصورها الجديدة،وبات "الأبرتهايد" سيفا مسلطا على مشروع الاستقلال حين تحولت  المحافظاتوالمدن والأرياف إلى كانتونات مغلقة محاصرة تخضع لجملة طويلة من الإجراءات المعقدةوالقمعية العنصرية، وبذلك الأمر الواقع أيضا سقطت مرة أخرى نظرية "السلاح  يجلب السلام".