خاص مجلة القدس/ اعداد وحوار: امل خليفة

وسط خريطة فلسطين التاريخية تبرزُ القدس عاصمةً لدولة فلسطين، ولكن هذه الحقيقة تتنافى مع الواقع المفروض إسرائيليًا على الأرض، خصوصًا في ظل كون قضية القدس أسيرة الأدراج والمؤتمرات الدولية، لحتى أن الحديث عن القدس من الناحية الجغرافية بات ممزّقًا بفعل ما أحدثه الجدار وقطار المستوطنات ضمن إحدى أشرس المعارك الديمغرافية التي تشنُّها إسرائيل لطمس معالم كل ما هو فلسطيني عربي في الأراضي المحتلة.

 

الاستيطان ورسم الحدود

حول الحرب الديمغرافية التي تشُنُّها إسرائيل على الأراضي الفلسطينية وخصوصًا في مدينة القدس يقول خبير شؤون الاستيطان ومدير إدارة الخرائط في جمعية الدراسات العربية بيت الشرق/القدس خليل التفكجي: "بدأت الجرافات الإسرائيلية، قبل وقف إطلاق النار عام 1967، بتهجير سكان القرى العربية (يالو وعمواس وبيت نوبا) وتدميرها، بالإضافة إلى تدمير جزء من مدينة قلقيلية، وتمَّت السيطرة على 58 كلم2 من أراضي الحرم، كما تمَّت إقامة مستوطنات جديدة على هذه الأراضي واستغلالها للزراعة، وفي نفس الوقت تم هدم حي الشرف في مدينة القدس لإقامة ما سمّوه بـ"الحي اليهودي"، وعلى ضوء السياسة الإسرائيلية غير الواضحة آنذاك، التي كانت تسعى لإجراء تعديل حدودي مع ضم جزء من الأراضي إلى إسرائيل (القدس، اللطرون، ومنطقة غوش عتصيون) إضافةً لمنطقة أمنية في غور الأردن، فقد تركَّز الاستيطان في هذه المناطق، أمَّا المناطق الأخرى، فكان يُفترَض أن تتم إعادتها إلى الأردن (مشروع آلون)، لكن هذه السياسية تطوَّرت مع تطوُّر الوضع السياسي والرؤية الصهيونية في سياق تنفيذ مشروع الاستيطان".

 

ويرى التفكجي أن إسرائيل استغلَّت الاتفاقيات الموقَّعة لتزيد من توسُّعها، وخصَّصت التمويل لهذا التوسُّع ورسم حدود جديدة للدولة العبرية، وأخذت تُصدِر الأوامر العسكرية التي تُعلِن عن مصادرة الأراضي، كما بدأ غُلاة المستوطنين بإنشاء البؤر الاستيطانية على رؤوس الجبال، وتمَّت دعوة المستوطنين إلى احتلال أكبر عدد ممكن من التلال المجاورة للمستوطنات، ومع تزايد وتيرة مصادرة الأراضي والاستيطان والإكثار من الطرق الالتفافية، كانت المعركة النهائية قد فُتِحت على مصراعيها.

ويواصل التفكجي "وهكذا أُقيمت 116 بؤرة استيطانية تطبيقًا للمخططات الإسرائيلية التي طُرِحت وهي تقضي بإقامة مجموعة من المستوطنات داخل الخط الأخضر، وفوقه، وبعمق الأراضي المحتلة، راسمة الحدود المستقبلية للدولة الفلسطينية. وفي عام 2001 اتُخِذ قرار إقامة جدار الفصل العنصري تجسيدًا لهذه الرؤية، إذ أُقيم الجدار داخل الضفة الغربية وفي المناطق العربية المأهولة، لفصلها عن المناطق الإسرائيلية التي أُقيمت فوق الخط الأخضر، وبدورها فإن الخرائط التي قُدِّمت في كامب ديفيد وطابا -التي تضم الكتل الاستيطانية التي سوف تضم إلى إسرائيل- أصبحت أمرًا واقعًا لخطة الفصل الحالية، وقبل استكمال إخلاء المستوطنين من قطاع غزة وشمال الضفة في آب 2005، سارعت الحكومة الإسرائيلية إلى تنفيذ القسم الثاني من خطة فك الارتباط لتعزيز السيطرة الإسرائيلية على الكتل الاستيطانية بالضفة الغربية. وفي تزامن شبه كامل مع الإخلاء من قطاع غزة، قامت السلطات الإسرائيلية بإصدار أوامر بمصادرة الأراضي الفلسطينية في المناطق المرشَّحة لبناء جدار الفصل، وتمَّت المصادقة على إقامة محطة شرطة في المنطقة المسماة «E1» بين مستوطنة «معاليه ادوميم» والقدس، في خطوة تهدف لإقرار حقائق على الأرض قبل مفاوضات المرحلة النهائية".

 

اللمسات النهائية للقضاء على إمكانية إقامة دولة فلسطينية مستقلة

ويلفت التفكجي إلى أن الإجراءات الإسرائيلية على مستوى الكتل الاستيطانية والشوارع الالتفافية قطعت أي تواصل جغرافي بين المدن والبلدات والقرى الفلسطينية، وجعلت إقامة دولة فلسطينية مستقلة على الأراضي المحتلة منذ العام 1967 أمرًا مستحيلاً ضمن هذه الرؤية، بل إن رسم الحدود من قِبَل الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة والاستيطان المركَّز في جميع أنحاء الضفة الغربية أدَّيا إلى إعادة الروح إلى أفكار ومشاريع سبق طرحُها منذ زمن طويل، لكنها اليوم تكتسب بريقًا جديدًا على إيقاع تقدُّم المشروع الصهيوني الاستيطاني على حساب ما يعرف باسم «حل الدولتَين»، وهي مشاريع تتراوح بين دولة «الكانتونات» الفلسطينية ذات الحدود الموقتة، وفكرة الوطن البديل التي تُطرَح من حين إلى آخر من قبل الإسرائيليين.

ويتابع التفكجي "في المحصلة، فإن إسرائيل من خلال توسيع وتسريع عمليات الاستيطان في الضفة الغربية والقدس الشرقية توجِّه رسالة واضحة مفادها أن التغييرات على أرض الواقع تؤكِّد أن «دولة فلسطين هي في الأردن وليست في الضفة الغربية»، إذ إنَّها تسعى للدفع باتجاه إقامة دولة فلسطين شرق نهر الأردن، بحيثُ تكون التجمُّعات الفلسطينية المتبقية في الضفة الغربية تابعة لتلك الدولة، ولعل الحديث عن الكونفدرالية مع الأردن، وأن «الأردن هي فلسطين»، كما تُروِج له أوساط سياسية إسرائيلية، لا يبعد كثيرًا عمَّا يحدث من رسم سياسات على أرض الواقع بقوة الاستيطان والتهويد والتطهير العرقي في الضفة الغربية. وللأسف، نجحت إسرائيل في استغلال الخلاف الفلسطيني لصالحها، فانطلقت لتُعلِن رفضها التفاوض حول ملف القدس باعتبارها خارج إطار المفاوضات، كما نجحت دائمًا في محاولة إظهار الرئيس الفلسطيني على أنه غير قادر على التفاوض تحت ذريعة عدم سيطرته الكاملة على الشعب الفلسطيني، خاصةً أن الخلاف يزداد عمقًا مع مرور الوقت رغم الجهود العربية -وخاصة ما تُقدِّمه مصر الشقيقة- لإعادة وحدة الصف الفلسطيني، إلا أن الأيادي الخفية ترفض عودة الوحدة وتسعى لإشعال الخلافات".

 

صمود المقدسيين

الشعب الفلسطيني وحده وخصوصًا المقدسيين غير قادرين على حماية عروبة القدس من التهويد. فالمقدسيون وحدهم لن يستطيعوا فعل الكثير أمام الهجمات الإسرائيلية الكبيرة التي تهدف إلى تهويد المدينة، ومنها جدار الفصل العنصري الذي عزَلَ أهالي القدس عن الضفة الغربية، إذ يوضح التفكجي قائلاً: "خطورة جدار الفصل العنصري تكمن في أنه يُتيح للقيّم على أموال الغائبين أن يستولي على أملاك الفلسطينيين الذين يسكنون خارج الجدار، وهو بذلك أشبه بالسكين الذي يقطع شرايين الحياة، كما سبق أن أقرَّ بذلك المستشار القضائي السابق لإسرائيل مئير شمغار. وبالتالي، فإنَّ هذا الوضع الناشئ عن الجدار سلَب الفلسطينيين أراضيهم وممتلكاتهم، التي انتقلت إلى الحارس على أملاك الغائبين، كما أن إسرائيل تسعى من خلال هذه الخطوة لسلب الفلسطينيين حقهم في الحركة، وحرمانهم من حقوقهم المقدسية من خلال ذرائع مختلفة لعزل القدس بكل ما فيها، وإسرائيل لا تُخفي أن الاعتبار في تحديد مسار جدار الفصل ليس أمنيًا فقط، بل يتعدَّاه لأهداف أخرى أخطر منها. ففي المدينة يعيش 250 ألف عربي يحملون بطاقات زرقاء مقدسية، منهم 130 ألفًا سيعيشون داخل الجدار، بينما سيعيش125 ألفًا في مناطق القدس التي وُضِعت خارج الجدار. ومن هنا يحاول الاحتلال قانونيًا وديموغرافيًا تضييع الحقوق الفلسطينية حول بقية المدينة المقدسة، وحتى هذه اللحظة ما زال هناك أمل في إنقاذ المدينة وبقائها عربية إسلامية رغم وجود أكثر من 200 ألف مستوطن، ورغم سيطرة إسرائيل على87% من القدس الشرقية بأشكال مختلفة، لأن القدس ما زالت عربية وهناك أكثر من 250 ألف مقدسي موجودين فيها وصامدين في الدفاع عنها، ولكن السؤال يبقى إلى متى  سيستمر ذلك الصمود؟!".

 

المخطط الإسرائيلي "2020"

هو مخطط فكرت به إسرائيل بعد أن وصل عدد السكان العرب سابقًا إلى 35% من المجموع العام للسكان، بالإضافة إلى تزايد المخاوف الإسرائيلية بسبب الدراسات الصادرة عن مراكز الأبحاث الإسرائيلية التي تنبأت بأن العرب عام 2040 سيُشكِّلون 55% من المجموع العام للسكان.

 وفي هذا السياق يقول التفكجي: "أضاءت الحكومات الإسرائيلية الضوء الأحمر أمام مخططيها لوضع خريطة هيكلية لمدينة القدس بهدف تطوير المدينة وتقوية مركزها باعتبارها عاصمة لدولة إسرائيل، وزيادة قوّة جذب المدينة بعد أن ظهرت في السنوات السابقة كمدينة طرد سكاني، وإيجاد احتياطي من الأراضي للبناء السكني، وكل ذلك يُنبِئ بأن محاولة إسرائيل للسيطرة على المدينة قد اتخذت منحى جديدًا وهو الصراع الديموغرافي. فالمخطَّط 2020 بكل أبعاده السياسية والتخطيطية يطرح هدفًا واحدًا وهو تقليص الوجود الفلسطيني في المدينة، من خلال تخصيص فائض الوحدات السكنية ومساحات التطوير للجانب اليهودي بهدف جذب سكان جدد ومنع الهجرة، فيما يتم استيعاب الزيادة السكانية للفلسطينيين عن طريق منحهم حقوق بناء طوابق جديدة ضمن المباني القائمة، دون أدنى مراعاة لطبيعة بنيتها التحتية".

 

استمرار تغيير الحقائق

ينوِّه التفكجي إلى أن الجديد في موضوع البناء الاستيطاني يكمن في بناء البؤر الجديدة حول القدس وحدودها، وزرع المستوطنات في الأحياء الفلسطينية كما رأس العامود وجبل الزيتون، إضافةً إلى تغييرٍ في مشهد مدينة القدس وإعادة تشكيل لها في إطار أن التاريخ اليهودي بدأ يُكتب بشكل واضح من خلال باب المغاربة والمتاحف وغسل الأدمغة والتحضير لما هو آتٍ، ويشرح قائلاً: "تمَّ طرح بناء 850 ألف وحدة استيطانية. وقد أدت الـ3000 وحدة التي تمَّ الانتهاء من تشييدها في السنة الماضية لارتفاع عدد المستوطنين إلى 200 ألف مقابل 175 ألف فلسطيني داخل الجدار، إضافة إلى أن عدد مستوطني شرقي وغربي القدس قد بلغ 600 ألف، مما يعني أن الديموغرافيا والجغرافيا تخلخلت بشكل كبير بفعل مخططات الاحتلال، وما إغلاق حاجز رأس خميس للتخلُّص من الفلسطينيين الذين بلغت نسبتهم 38% من سكان القدس إلا مثال بسيط على جزء من هذه المخطَّطات. وتشير الحقائق على أرض الواقع إلى أن الاحتلال خطَّط لمشروع 2020 في عام 1994، فكانت عبرنة الأسماء والتراث وإنشاء الحدائق والوحدات الاستيطانية، والأنفاق والجسور وربط مستوطنات القدس، وأمسَت القدس الآن غير قدس الأمس، وكذلك فهي لن تكون كالقدس غدًا، لأن المخطط عبارة عن برنامج لإنهاء عروبة وإسلامية المدينة وجعلها يهودية، وما يجري من انتهاكات بحق المسجد يُعدُّ تمهيدًا للخطوة التالية وهي بناء الهيكل المزعوم".

 

إجراءات ومخطَّطات أخرى

ساهم الصمود المقدسي بتعطيل جوانب كثيرة من مخططات الاحتلال من خلال استمرار المواطنين بالبناء وإن كان دون ترخيص، واستغلال مساحات من أراضيهم بالتزامن مع صمود عدد كبير منهم في وجه ما تعرَّضوا له من ابتزاز وتضييق متواصل من قِبَل البلدية، إلا أن إيقاف مشروع خُطِّط له على مستوى الكيان الإسرائيلي، لا شكَّ أنه يحتاج خطوات جادة وصمودًا ودعمًا أكبر من ذلك. ويرى التفكجي أن "بلدية الاحتلال تعمل على تسهيل البناء والأجواء للمستوطنين في المدينة مقابل حرمان الفلسطينيين من حقوقهم"، ويضيف "إن الأحياء اليهودية الجديدة في المدينة والمستوطنات والتوسعة والجبال المطلة على ما يُسمَى الحوض المقدَّس في 2020 كلها تتم وفق هذا المخطط الخطير، وفي المقابل فإنه بحسب المخطَّط في القدس ينبغي أن يُسمَح للمقدسيين بالبناء على ما يُقارب 14 ألف وحدة سكنية، ورغم ذلك يُمنَع المواطنون من البناء بحجة أن المخطط غير مُصادق عليه مع أنه على أرض الواقع يُنفَّذ بتسارع قوي لصالح المستوطنين. ففي أحياء رأس العامود والبستان وتلة سلوان ووادي الربابة وباب الرحمة وسفوح جبل الطور أحدث المستوطنون ثغرة للاستيطان، وقاموا بالسيطرة على العقارات والأراضي، ولكن الإعلام كشف عن مستوطنات ولم يكشف عن مستوطنات أخرى كهذه التي أنشئت وافتُتحت، ولا ريب أنها الأخطر كونها تُشكِّل بؤرًا استيطانية جديدة داخل التجمُّعات المقدسية".

ويتابع التفكجي موضحًا "إن أكثر ما يُقلق إسرائيل هو التكاثر في فلسطين المحتلة عام 48 وتحديداً في القدس. ولذلك عمدت سلطات الاحتلال إلى مصادرة كل الأراضي في القدس حيث أصبح بيد الإسرائيليين 87% من الأراضي داخل المدينة، أمَّا البلدة القديمة التي تبلغ مساحتها 1 كلم2، فإنها تتعرَّض لهجمة شرسة، الهدف منها أيضاً تخفيض نسبة السكان العرب إلى 12%، وفشل إسرائيل بالديموغرافيا جعلها تتحوَّل سريعاً نحو الجغرافيا، فهدمت المنازل وسحبت الهويات، وأقامت الجدار العنصري الذي عزل بدوره القدس عن التجمُّعات السكانية، وحال دون التوسُّع السكاني من خلال وضع القيود على ترخيص المباني الخاصة والعامة، ومنع ترميم المنازل القديمة، لإجبار أصحاب تلك المنازل على هجرها، واستيلاء المنظَّمات اليهودية عليها إما بالشراء أو المصادرة، وهناك أحياء بكاملها يتم السعي الحثيث لتهويدها كما يحدث في حي الشيخ جراح وسلوان وحي البستان وغيرها".

ويبقى القول إن ما تُخصِّصه إسرائيل لتهويد القدس يفوق بكثير ما تم إقراره في القمم العربية لدعم القدس ومقداره نصف مليار دولار. فالجماعات اليهودية تُخصِّص ما قيمته 300 مليون دولار سنويًا، والسياسيون في إسرائيل يُنِفقون ما يزيد على مليار ونصف المليار، أي أن الاحتلال يُنفق قُرابَة مليارَي دولار سنويًا لتهويد القدس، في حين أن الدعم العربي للقدس لم يصل منه إلا بضعة ملايين. فهل يستطيع المقدسيون الصمود طويلاً في ظل هذا الوضع؟ وهل ستبقى القدس محافظة على هويتها العربية والإسلامية؟