خاص مجلة القدس/ تحقيق- منال خميس

يتواصَل التدهوُر الخطير للأوضاع الإنسانية في قطاع غزة، إذ ما زال القطاع يتعرَّض إلى عدة أزمات في جميع المناحي الحياتية بسبب تراكمات الحصار الإسرائيلي المفروض منذ سبع سنوات، علاوة على إغلاق الأنفاق الحدودية مع جمهورية مصر العربية التي كانت تُمثِّل شريان الواردات من البضائع التي يمنع الاحتلال دخولها لغزة عبر المعبر الرسمي، كمواد البناء، والعديد من المواد الخام الأولية اللازمة للقطاع الصناعي والوقود، ذلك بالإضافة إلى أزمة الكهرباء الطاحنة التي يمر بها القطاع، وتداعياتها السلبية على العمليات الحياتية والإنتاجية في القطاعات والأنشطة الاقتصادية كافةً.

 

ألكسا تُعرِّي هشاشة البنية التحتية

 أتت العاصفة الجوِّية الأخيرة "أليكسا" التي اجتاحت القطاع لمدة أربعة أيام، لتكشف ضعف البنية التحتية وهشاشة الإمكانيات المتاحة للتعامل مع تلك الأحوال، ولتُخلِّف وراءها كارثة إنسانية كبيرة، موقِعةً العديد من الضحايا ومشرِّدةً آلاف العائلات من منازلها بعدما غمرتها مياه الأمطار ومياه الصرف الصحي، الأمر الذي أدَّى لنزوح ما يقارب 1500 أُسرة مكوَّنة من 2234 فردًا من أنحاء متفرِّقة من غزة إلى 19 مركزًا آمنًا للإيواء شملت المدارس، حيثُ قُدِّمت لهم معونات إغاثية عاجلة، فيما غمَرَت مياه الأمطار أحياء سكنية كاملة مثل حي النفق غربي مدينة غزة، الذي يُعدُّ أكثر المناطق تضررًا، إلى جانب غرَق المنازل المحيطة بتجمُّعات البرك المائية ومياه الصرف الصحي في شمال ووسط وجنوب القطاع. وليكتمل الدمار، فقد فتَحَ الاحتلال السُّدود المائية، مما أدَّى إلى حدوث اندفاعات قوية للمياه، الأمر الذي أجبر مئات المواطنين على إخلاء منازلهم وخاصة في مناطق رفح ومنطقة صوفا، وعبسان في منطقة خانيونس الشرقية ودير البلح ووادي السلقا ومخيم النصيرات ومنطقة وادي غزة بالإضافة للكارثة الحقيقية التي حدثت في محيط بركة الشيخ رضوان.

من جهتها، قالت المواطنة أم سعيد التي تسكن بشارع النفق للـ"قدس": "لم نتمكَّن من أخذ متاعنا أو أي شيء من أغراضنا فقد فُوجِئنا بالمياه تغمُر أدوار البيت الثلاثة، وجميع الأثاث، وبالكاد استطعت أن ألملم أطفالي الخمسة الصغار من المنزل، حيثُ أخرَجنا رجال الدفاع المدني من المنزل بقارب صيد، ثم تمَّ نقلنا للإيواء إلى إحدى مدارس القطاع". وتابعت: "حين خرجتُ من المنزل بقيتُ لفترة مصدومة، لقد ظننتُ للحظة أننَّي في مدينة البندقية، فكل البيوت تسبح في الماء، وقوارب الصيد حولها".

هذا وقد فاقَ عدد المنازل التي تعرَّضت للغرق 3,300 وحدة سكنية، إضافةً لتضرُّر نحو 1,000 وحدة سكنية بأضرار إنشائية متفرِّقة، إذ وصلت الخسائر المادية لتلك الوحدات بحسَب التقديرات إلى قُرابة 40 مليون دولار. وبحسب التقديرات في حينها أيضاً، فقد بلغَت أضرار قطاع البنية التحتية والطرق ما يُقارب 12 مليون دولار، متمثِّلة بشبكات الصرف الصحي والاتصالات والطرق والمياه وشبكات الكهرباء. كما تكبَّد القطاع النباتي والحيواني وصيد الأسماك خسائر جسيمة. فقد قدَّر وزير الزراعة بغزة، علي الطرشاوي، الخسائر التي لحقت بتلك القطاعات بنحو 7.7 ملايين دولار أميركي.

 

غزة تصارع الركود التجاري

وعلى الصعيد العام أكَّد مدير العلاقات العامة بالغرفة التجارية الفلسطينية لمحافظات غزة الدكتور ماهر الطباّع، أن الخسائر المباشرة لقطاع غزة في الأنشطة الاقتصادية كافةً تجاوزت 500 مليون دولار خلال الخمسة شهور والنصف الأخيرة، وذلك بفعل توقُّف بعض الأنشطة الاقتصادية بشكل كامل وانخفاض الإنتاجية في الأنشطة الاقتصادية الأخرى، لا سيما بعد تراجُع مساهمة الأنشطة الاقتصادية في الناتج المحلى الإجمالي بنسبة 60% خلال تلك الفترة، هذا بالإضافة إلى ما تكبَّده التُّجار ورجال الأعمال والصناعيين من خسائر نتيجة توقُّف أعمالهم.

 وأضاف الطبّاع للـ"قدس": "بفعل الحصار وإغلاق الأنفاق توقَّف قطاع الإنشاءات عن الإنتاجية بشكل كامل إذ إنَّ هذا القطاع كان يعتمد بالدرجة الأولى على مواد البناء الواردة عبر الأنفاق في ظل منع الاحتلال من دخولها عبر المعبر الرسمي منذ فرض الحصار"،  لافتاً إلى تأثُّر القطاع الصناعي بشكل كبير نتيجة لاعتماد بعض الصناعات على المواد الخام الأولية الواردة عبر الأنفاق (الصناعات الإنشائية، والصناعات الكيمائية، والصناعات المعدنية)، مما تسبَّب بانخفاض الإنتاجية في هذا القطاع بشكل ملحوظ، هذا بالإضافة إلى أثر أزمة الكهرباء التي تضرب قطاع غزة، وانقطاع السولار المصري وعدم التمكُّن من الإنتاج باستخدام السولار الإسرائيلي لارتفاع تكلفته مما سوف يُسهِم في ارتفاع تكلفة المنتَج و يصبح غير منافس في الأسواق المحلية.

وتابع: "إن كل هذا كان له الأثر البالغ على القطاع التجاري. فقطاع غزة يشهد حالة ركود شديدة في الأسواق لم تشهدها أسواق قطاع غزة من قبل، وذلك نتيجة لارتفاع معدلات البطالة وضعف القدرة الشرائية للمواطنين. وبفعل الركود التجاري انخفضَت حركة الواردات عبر معبر كرم أبو سالم إلى قطاع غزة إذ تراوح عدد الشاحنات الواردة يوميًا ما بين 200 إلى 250 شاحنة، بعد أن كان العدد قد وصل إلى 450 شاحنة- بعد إغلاق الأنفاق -من الأصناف المسموح دخولها إلى قطاع غزة".

 ولفت الطبّاع في تقرير سابق له، إلى تأثُّر قطاع السياحة بشكل كبير خلال سنوات الحصار، إذ إنَّ السياحة في القطاع اقتصرَت خلال سنوات الحصار على وفود التضامن الأجنبية القادمة من خلال معبر رفح، وهي على كونها زيارات مؤازرة لكنها كانت تأتي بمردود إيجابي، فكانت تُنعِش قطاع السياحة من خلال حجوزات الفنادق والذهاب للمطاعم وشراء احتياجاتهم من الأسواق خلال فترة إقامتهم.

ومع إغلاق معبر رفح الأخير، باتت الفنادق والمنتجعات السياحية والمطاعم، المنتشرة على ساحل بحر غزة، بلا عمل بعد عزوف الوفود المتضامنة عن القدوم إلى قطاع غزة، وأصبحت نسبة إشغال الفنادق والمطاعم والمنتجعات السياحية معدومة في القطاع.

وبحسب الطبّاع فقد تأثّر قطاع النقل والمواصلات بشكل سلبي نتيجة عدم دخول الوقود- عبر الأنفاق-  الذي اعتمد عليه سكان قطاع غزة في كافة مناحي الحياة على مدار سنوات الحصار، بسبب انخفاض أسعاره. واليوم، وبعد إغلاق هذه الأنفاق أصبح من الصعب الاعتماد على الوقود الإسرائيلي نتيجة تضاعف سعره مقارنةً بالوقود المصري في ظل الأوضاع الاقتصادية والمعيشية الصعبة التي يعانيها مواطنو القطاع، إضافةً إلى أزمة المواصلات الخانقة التي يعانيها القطاع.

 وأشار الطبَّاع إلى أن ما سبق أدَّى إلى ارتفاع معدلات البطالة في قطاع غزة في الربع الثالث من عام 2013 إلى 32.5% بواقع 130 ألف عاطل عن العمل مقارنة بالربع الثاني من عام 2013 الذي بلغَت فيه معدلات البطالة 27.9% أي أن نسبة الارتفاع بلغت حوالي 5%.

ودعا الطباع المؤسَّسات والهيئات الدولية وعلى رأساها هيئة الأمم المتحدة والرباعية الدولية، إلى ممارسة دورها بالعمل الجاد والضغط على إسرائيل لرفع الحصار عن قطاع غزة وإدخال كافة احتياجاته من الواردات دون التحكُّم بالنوع والكم ودون قيود أو شروط، والسماح بتسويق منتجات قطاع غزة الصناعية والزراعية في أسواق الضفة الغربية وتصدير تلك المنتجات للعالم الخارجي، وإنهاء أسوأ وأطول وأشد حصار يشهده العالم في القرن الواحد والعشرين، وتجنيب قطاع غزة كارثة اقتصادية، اجتماعية، صحية، بيئية.

 

تدهور للأوضاع الإنسانية

من جانبها أعربت مؤَّسسات إنسانية عاملة في القطاع، عن قلقها إزاء الوضع القائم بسبب استمرار الانقسام الفلسطيني، واشتداد حِدّة الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة منذ العام 2007.

وعبّرت "الهيئة الفلسطينية المستقلة لحقوق الإنسان" في تقرير لها، وصل"القدس" نسخة عنه، عن قلقها الشديد إزاء التدهور الخطير للأوضاع الإنسانية في القطاع، مطالبة منظمات الأمم المتحدة والمنظَّمات الإنسانية والإغاثة الدولية المبادرة بتقديم كافة أشكال المساعدات والدعم الطارئ لقطاع غزة بشكل عاجل من أجل الحد من تفاقم الأضرار الإنسانية.

ويعاني قطاع غزة أزمة كهرباء خانقة، بسبب توقُّف محطة توليد الكهرباء عن العمل، بعد نفاد الوقود منذ وقف عمليات دخوله عبر الأنفاق الممتدة على الشريط الحدودي مع مصر.

وبسبب الأزمة ينقطع التيار الكهربائي عن سكان القطاع أكثر من 16 ساعة متواصلة يوميًا، بل إنه لا يصل إلى بعض المناطق لعدة أيام، مما تسبَّب بالعديد من الأزمات، ومنها توقُّف محطات ضخ مياه الصرف الصحي، وتأثيره بشكل كبير على عمل المستشفيات والمصانع والحالة الإنتاجية بشكل عام.

ويحصل قطاع غزة على الكهرباء اللازمة له من ثلاثة مصادر هي: خط كهرباء من الاحتلال يزوِّد القطاع بـ120 ميجاواتاً، وخط كهرباء من مصر يزوده بـ 27 ميجاواتاً، وثالثاً، ما يتم إنتاجه من محطة توليد الكهرباء في غزة.

المواطن خالد أبو كويك من شمال غزة قال للـ"قدس": "لقد توقَّفت حياتنا تمامًا لدرجة أصبحنا لا نعرف ماذا نفعل لأطفالنا بسبب شدة البرد، وعدم تمكُّننا من تدفئتهم، بسبب انقطاع الكهرباء المتواصل، ونقص الأغطية ووسائل التدفئة"، لافتاً إلى عدم تمكُّن أطفاله من الدراسة وتدني مستواهم الدراسي بسبب الكهرباء مُحمِّلاً حكومة غزة مسؤولية أزمة الكهرباء من جهة، والاحتلال الإسرائيلي من جهة أخرى، ومؤكِّدًا أنها قضية سياسية بحتة.

ومن جانبها كشفَت إدارة الشؤون الإنسانية في منظمة التعاون الإسلامي في تقريرها الخاص بالوضع الإنساني لقطاع غزة عن الأزمات المتتالية التي تعصف بحدة بأحوال المواطنين من المناحي كافة، وزاد التقرير عليها انعكاسات الأحداث الجارية في مصر وإغلاق منفذ رفح البري.

ووضع التقرير بالأرقام النقاط على الحروف من خلال قراءة الواقع الحالي بإحصاءات محدَّدة أكَّد فيها وجود عجز في رصيد الأدوية العلاجية بنسبة 29%، وعجز في المهمَّات الطبية بنسبة 52%، وتعذُّر وصول 1000 مريض من الحالات المرضية التخصُّصية إلى المستشفيات المصرية المتخصِّصة، مشيراً إلى انخفاض أعداد المسافرين عبر معبر رفح إلى 15%، مقارنة بما كانت عليه في نفس الفترة من العام السابق 2012.

 

ولأعمال الصيد من الضرر نصيب

بدورها تعطَّلت أعمال الصيد بسبب أزمة الوقود الحالية، إذ تعطَّل ما بين 70-80% من الصيادين عن العمل بشكل موقت. ولفت التقرير إلى انقطاع الكهرباء بمعدل 16 ساعة يوميًا عما كانت عليه بالسابق أي 8 ساعات يوميًا. كما توقَّفت 90% من مشاريع البنية التحتية التي تُنفِّذها البلديات بتمويل عربي ودولي. وتوقَّف نحو 20 ألف عامل فلسطيني في قطاع البناء والإنشاءات عن العمل منذ شهر يوليو 2013 وحتى كتابة التقرير.

كذل فقد جاء في التقرير أن "أكثر من 12 ألف مواطن يعيشون الآن دون مأوى نتيجة عدم قدرتهم على إعادة بناء منازلهم التي دُمِّرت جرَّاء الاعتداءات الإسرائيلية المتكرِّرة على القطاع، وتوقُّف السائقين وعُمَّال السيارات بنسبة 80% عن العمل بسبب أزمة نقص الوقود". وأشار التقرير إلى ارتفاع معدل استهلاك البلديات للوقود إلى 666,711 لتر شهريًا عما كانت عليه بالأشهر السابقة للأزمة نتيجة انقطاع الكهرباء، لافتًا إلى انخفاض وصول مياه الشرب والاستخدام المنزلي في المتوسط بنسبة 40% من سكان قطاع غزة. وقدَّر التقرير خسائر القطاع الزراعي بـ150 ألف دولار بشكل يومي نتيجة عدم قدرة المزارعين على تصدير منتجاتهم. في حين تكبَّد الاقتصاد في قطاع غزة أكثر من 500 مليون دولار خلال الثلاثة أشهر الماضية، بالإضافة إلى أن 57% من الأُسر في غزة تعاني انعدام الأمن الغذائي، ووصلت نسبة البطالة في صفوفهم إلى 40%.

هي أزمات ثقيلة تعصِف بقطاع غزة، حمَّل بعض المواطنين مسؤوليتها، لحكومة غزة، وبعضهم حمَّلها للسلطة الفلسطينية مُمثَّلة بالرئيس محمود عباس برام الله، إلا أنَّهم اتفقوا جميعًا على مسؤولية الاحتلال المباشرة عن هذه الأوضاع غير الإنسانية. ولكن إلى متى يستمر الصمت الدولي والعربي على هذا الحال؟ وإلى متى سيظل رد الفعل الفلسطيني الرسمي وغير الرسمي عاجزًا عن الارتقاء إلى تقدير معاناة المواطنين؟ أسئلة طرحها أحد المسعفين وهو يحمل طفلاً انتشله من وسط السيول التي أغرقَت حي النفق غربي مدينة غزة.