نقلا عن 'الحياة الجديدة'

ما بين الخامس والعشرين والتاسع والعشرين من أيار 2014، شهر النكبة عام 1948، جرت أحداث لها أبعادها ومدلولاتها التي ستبقى خالدة في التاريخ، ففلسطين خلال هذه الأيام الأربعة عادت لتكون مركز اهتمام الإعلام العالمي بأسره، وواجبنا التعريف بهذا الحدث، وكيف تم، وما هي أهم الأمور التي حدثت.

كانت البداية قبل نحو عام، عندما وجه الرئيس أبو مازن الدعوة لقداسة البابا فرانسيس الأول لزيارة فلسطين، وأعقبها بدعوة البطريرك المسكوني بارثولوميو، حيث تقرر أن يتجدد اللقاء على أرض فلسطين ما بين الكنيستين الكاثوليكية والأرثوذوكسية بعد خمسين عاماً من اللقاء الأول في القدس.

لم تكن الترتيبات وقضايا البروتوكول سهلة، فالجميع كان على دراية بأن هناك أبعاداً سياسية ستترتب على مثل هذا الحدث، حتى وإن قيل بأن زيارة قداسة البابا والبطريرك دينية بحتة وأنها حجٌ إلى الأرض المقدسة.

أثناء التحضير أعلن عن مشاركة غبطة البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي في الوفد المرافق لقداسة البابا، وكان هذا بحد ذاته حدثاً تاريخياً أيضاً، فهي المرة الأولى التي يزور فيها بطريرك ماروني فلسطين منذ قيام إسرائيل، ولذلك سلطت الأضواء وتعددت التصريحات من قبل جهاتٍ مختلفة في منطقتنا ما بين مؤيد ومعارض، في حين لم يتحدث أحدٌ تقريباً عن حضور بطاركة كنائس أخرى مثل روسيا وجورجيا وبلغاريا وصربيا ورومانيا وقبرص وفنلندا على أهميتها.

كانت المحطة الأولى لقداسة البابا فرانسيس مدينة بيت لحم، حيث وصلها بطائرة هليوكوبتر من عمان مباشرة كدلالة على أنه يأتي من دولة إلى دولة أخرى هي فلسطين التي سبق للفاتيكان وان اعترف بها عام 2012، وقد جرى له استقبال رسمي وشعبي حاشد وانتقل بسيارة مكشوفة وسط الجماهير لإقامة القداس في ساحة كنيسة المهد بحضور الرئيس أبو مازن وعشرة آلاف شخص جاء كثيرون منهم من دول أجنبية لهذه المناسبة، وفي طريقه وبمبادرةٍ منه، وبدون ترتيبات مسبقة صورت كاميرات العالم بأسره قداسة البابا وهو يترجل من السيارة ويقف أمام جدار الفصل العنصري يتلو صلاة كانت دلالتها واضحة وترجمتها أقواله فيما بعد بالدعوة إلى مد الجسور وليس إقامة الجدران، بل إنه طالب في كلمته، قبل عودته إلى الفاتيكان وبحضور قادة إسرائيل، بحرية وصول المؤمنين إلى الأماكن المقدسة في القدس.

 في بيت لحم كان برنامج قداسة البابا مكتظاً، إذ شهد بالإضافة إلى اللقاءات الرسمية لقاء عددٍ من العائلات الفلسطينية التي تتعرض لأشكال مختلفة من المعاناة للغداء معه، كما التقى بوفد مخيم الدهيشة وتسلم بشكل رمزي بطاقة لاجئ فلسطيني، ومفتاحاً يدل على حق العودة.

لاحظ كل المراقبين الفارق ما بين مشهد البابا في بيت لحم وسط الجماهير والمشهد في القدس محاطاً ومحاصراً من قبل قوات الأمن الإسرائيلية التي فرضت شبه منع تجول على المدينة، مما حال دون تمكن الإخوة المسيحيين من أبناء القدس من الترحيب بقداسته، ولكن هذا لم يمنع المتطرفين اليهود من التظاهر ضد زيارة البابا والتذكير باضطهاد المسيحيين لليهود في أوروبا.

استُقبل قداسة البابا أثناء زيارته الهامة إلى المسجد الأقصى من قبل ممثلين فلسطينيين مسيحيين ومسلمين، وكان قد استمع إلى معاناتهم معاً من الإجراءات الإسرائيلية لتهجيرهم من مدينتهم، فكانت كلماته الواضحة: لنحترم ونحب بعضنا بعضاً كإخوة وأخوات، لنتعلم أن نفهم ألم الآخر، ولا يستغل أحد اسم الله لممارسة العنف، ولنعمل معاً من أجل العدالة ومن أجل السلام.

عشرات المرات كرر قداسة البابا كلمات العدالة والسلام والمحبة ورفض العنف والتمييز والقهر، كما أعلن عن مبادرةٍ بدعوة الرئيس محمود عباس والرئيس الإسرائيلي شيمون بيريس للقاء في الفاتيكان والصلاة من أجل السلام، وتحدد موعد اللقاء يوم الثامن من حزيران.

غادر قداسة البابا وبقي في فلسطين البطريرك الماروني الكاردينال الراعي، ليس بصفته ضيفاً وهو من أعز الضيوف، ولكن كإبن من أبناء هذه الأرض المباركة حيث قلده الرئيس أبو مازن نجمة القدس، تحيةً وتقديراً واحتراماً لمكانته ولقراره الشجاع بالمجيء إلى فلسطين، والكلمات ذات المعنى العميق التي قالها غبطته في عدة مناسبات دينية وغير دينية وهو يلتقي بفلسطينيين بعضهم في الضفة الغربية وآخرون في إسرائيل مطالباً الجميع بالتشبث بالأرض وعدم التفريط بها أو التراجع أمام ما يتعرضون له من تهديدات ومضايقات، مذكراً إياهم بأننا 'نحن أبناء هذه الأرض وعلينا الحفاظ عليها'.

كانت أبلغ ترجمةٍ لهذا القول، الزيارة غير المسبوقة وذات الأهمية التاريخية لغبطة البطريرك إلى قرية كفر برعم وتوأمها إقرث التي اقتلع سكانها وجرى تدميرها على غرار مئات القرى الفلسطينية الأخرى بعد النكبة عام 1948. لقد طالب غبطة البطريرك وهو يقف بين الجماهير التي احتشدت على أنقاض قرية كفر برعم ومن داخل كنيستها بحق عودة اللاجئين الذين هُجروا.

لقد أظهرت زيارة غبطة البطريرك الراعي إلى فلسطين مدى حب ووفاء وتقدير الفلسطينيين لأشقائهم في لبنان وتقديرهم لمقام سيد بكركي وتجاوزهم للصفحة السوداء التي شابت علاقة الفلسطينيين مع الإخوة الموارنة في السبعينات والثمانينات والتي ذهبت إلى غير رجعة. إن زيارة غبطته كانت بهدف شد أزر الفلسطينيين والتضامن معهم، وهي بعيدة كل البعد عن كونها تطبيعاً مع إسرائيل، فالقدس كما قال غبطته لنا كعرب مسيحيين ومسلمين ويجب ألا نتركها وألا نسمح أو نسهل تهويدها.

ما بين الخامس والعشرين من أيار والتاسع والعشرين منه، أيامٌ قربت الفلسطينيين من تحقيق أهدافهم في إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وإقامة دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، بحكمة قائد نجح في حشد أوسع تأييدٍ لقضية شعبه، مترجماً بالفعل لا بالقول: لا تكن قاسياً فتكسر ولا ليناً فتعصر.

إنها أربعة أيامٍ فقط، ولكنها ليست كبقية الأيام، فقد انتصرت فلسطين وارتفعت راياتها كما اعترف بذلك العدو قبل الصديق، وعلى ما أنجز خلال هذه الأيام التي دخلت التاريخ يواصل شعبنا مسيرته متسلحاً بحقه وبتضامن العالم معه حتى يحقق أهدافه المشروعة.