خاص مجلة القدس| العدد 349 لشهر آب 2018
إعداد: بكر أبو بكر

مقدمة
كانت النكبة في العام 1948 هي العامل المحفز الأساس لاحداث التغيير في الشخصية والكيانية الفلسطينية، وأثرت النتائج المترتبة على حقيقة الاقتلاع الوطني من الأرض على الصعد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للفرد والأسرة.
لقد استطاعت التنظيمات السياسية التي تواجدت على الساحة قبل النكبة أن تكون مهد التربية للكثيرين من أبناء الشعب الفلسطيني في مخيمات اللاجئين حيث نمت بينهم المشاعر السياسية الجمعية التي تمحورت حول التحرير والعودة الى الأرض قبل أن تتبلور الكيانية الجامعة ضمن منظمة التحرير الفلسطينية.
في الشتات واجه الشعب الفلسطيني واقعا اقتصاديا واجتماعيا قاهرا لم يستطع بسهولة أن يتأقلم معه، فكان الانتماء للتنظيمات السياسية مدخلا للتعبير عن الشعور الوطني والرغبة بالتحرير.
إلا أن الواقع الحياتي البائس قد فرض نفسه بقوة: حالات من اليأس والاحباط عند الكثيرين، الى القلق والتوتر والشعور بالغربة والمهانة مع ظهورالفقر والعوز ما جعل من الأسرة الفلسطينية تتجه في اتجاهات ثلاثة متكاملة لغرض تحسين وضعها الذاتي الاقتصادي، واعادة بناء وضعها الاجتماعي فكان التعليم هو المدخل الأساس، أو الحل الذي رأته العائلة لهذا الأمرليصبح التعليم سمة من سمات الشخصية الفلسطينية عامة.
كما كان التوجه للعمل خاصة في دول الخليج منطلقا ثانيا للتحسين في الوضع القائم، وظهرت التنظيمات السياسية كوعاء يستوعب الآمال والطموحات والأهداف ثالثا.
طرحت التنظيمات السياسية ما قبل انطلاقة فتح عام1965 رؤيتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية مرتبطة بأيديولوجية محددة ضمن الأيديولوجيات الثلاث التي كانت سائدة آنذاك، واستمرت لفترة طويلة بعد ذلك وهي (الاشتراكية، القومية، الاسلاموية)، وعندما كانت فتح تتبلور كفكرة وتنظيم منذ الخمسينات أخرجت المفاهيم الأيديولوجية بما فيها الرؤية الاجتماعية والاقتصادية من فكر فتح وركزت على المفهوم السياسي والوطني وهذا ما نراه بوضوح في أول وثيقة حركية هي (هيكل البناء الثوري) ثم في أدبيات فتح وخاصة كتيب حركة فتح والوضع الاجتماعي.
بعد اسهام الحركة في تمتين الكيانية الجامعة (م.ت.ف) وخاصة منذ العام 1969 والمستوعبة للشخصية الفلسطينية المتعلمة والعاملة والمسيسة رأت الاهتمام بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وذلك عبر انشاء مؤسسة (صامد) الاقتصادية ومؤسسة الشؤون الاجتماعية وأسر الشهداء، ومع ذلك لم يظهر في أدبيات حركة فتح ومؤتمراتها وقراراتها توجه محدد أو واضح للسياسات أو للنظام الاجتماعي الاقتصادي حتى المؤتمر السادس في الوطن عام 2008.
من الممكن الإشارة إلى أن الوعي الاقتصادي والاجتماعي كان له حظ من التفهم والحراك في خضم الانتفاضة الأولى في الوطن، حيث وجدت قيادة الانتفاضة وحركة فتح بالوطن نفسها تتعامل مع أوضاع الشعب الفلسطيني ومن خلال عدد من المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والتنظيمية، وفي حاجة لكثير من التعمق، من الممكن القول أن الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال وفي أثناء الانتفاضة قد مارس، أو أفرز توجهات اقتصادية اجتماعية كرسها لاحقا في ظل السلطة الوطنية.
حركة فتح نشأت كحركة تحررية ضد التسلط، وحركة وحدوية في إطارها الوطني وفي إطارها العربي الحضاري (الاسلامي المسيحي التراثي) العام، وتجريبية ذات عقلية مبادرة ترفض التحزب والأدلجة لتكون قادرة على ضم أكبر عدد ممكن من أبناء الشعب الفلسطيني، فتفوقت على التنظيمات الأخرى ولكنها مقابل ذلك افتقدت التنظير، والنظرة الاجتماعية-الاقتصادية المتماسكة.
ويمكن أن ندرك بوضوح أن "الفكر الوطني لحركة فتح ينطلق من فكر التحرر الوطني بإزالة التسلط الأجنبي، وأعلى أشكال التسلط الأجنبي هو الاحتلال ، وأسوأ أنواع الاحتلال هو (الاحلالي) الذي يستبدل شعباً بشعب آخر، واخطر تجربة هي التي نواجهها كفلسطينيين وأمة مع المحتل الصهيوني".
مع دخول كوادر منظمة التحرير الفلسطينية وفتح الى الوطن نشأت ضرورة لوضع الخطط والسياسات في الاتجاهات الاقتصادية والاجتماعية، ولكن الحركة كأطر تنظيمية في الخارج لم يكن لها أي دور بذلك-باستثناء الحراك الاجتماعي الاقتصادي للكادر بالوطن- وإنما ترك الأمر لكوادر الحركة في النظام السياسي (الوزراء وأعضاء المجلس التشريعي وكوادر السلطة) ليبلوروا ملامحه عبر التجربة ما ظهر في السياسات التي حكمت السلطة ولم تعترض عليها أي أطر في حركة فتح.
بقول آخر نستطيع القول أن فكر فتح الاقتصادي الاجتماعي قد صنعته التجربة العملية عبر المسيرة الطويلة، ومن خلال الاسهام الكادري، وخاصة الصفوة المتخصصة وقيادات الانتفاضة الأولى في أطر السلطة.
وعليه نقدم لكم في هذه الورقة الأساس النظري في فكر حركة فتح حول الفكر الوطني، وهوية الدولة والديمقراطية والمدنية، ثم نتعرض لمشاريع القرارات ذات الصلة، خاصة في المؤتمرين الحركيين الاخيرين لحركة فتح السادس والسابع في فلسطين.
وانها لثورة حتى النصر

الفكر الوطني الرحب
تبنت حركة فتح فكرا نشطا مِرحابا متطورا مازج بين: الوطنية (كمحبة وتخصيص وتكرس وتركيز وأولوية وإبداع) والكيانية (في كيان نضالي ثوري يمثل الوحدة الوطنية الجامعة ويبرز الشخصية العربية الفلسطينية) والاستقلالية (للإرادة الحرة) والتشاركية (بالديمقراطية والمدنية والتواصل والتداول) والعقلانية (والمدنية والاعتدال والوسطية واحترام الآخر) في إطار حضارتنا العربية الإسلامية الرحبة، والإنسانية التقدمية، فهي بذلك قد اختطت لنفسها طريقا عمليا تستطيع بها أن تجمع الكل الفلسطيني، والكل المناضل العربي والإسلامي والمسيحي، والحر العالمي نحو قضيته بعيدا عن التنظيرات الفارغة ومفاهيم الاستعلاء والإقصاء للآخر.
(فئة من هذا الشعب تحاول من خلال (فتح) أن تنتقم لسنوات الضياع التي عاشها هذا الشباب في حيرة وألم، يبحث عن الطريق ويتلمسها أحيانا من خلال الأحزاب، وأحيانا من خلال النظريات، ويتلمسها أحيانا من خلال هذه الدولة أوتلك...وكان الرفض المطلق للتلمّسات السابقة هو منطق "فتح" فرفضت النظرية دون عمل، ورفضت الوصاية من أي جهة..وبدأت ترفع شعارات جديدة في المنطقة..قوتها في بساطتها وأصالتها) ويضيف ممثل حركة فتح في مقابلة له في العام 1968 إلى ما سبق قائلا (إيمان "فتح" بالوحدة الوطنية قائم على أسس علمية نابعة من كون المرحلة التي يعيشها شعبنا هي مرحلة الكفاح الوطني لتحرير الأرض...)،وبعد استعراض لتناقضات الوضع والنظريات والأحزاب يضيف قائلا : أنه (كان لا يمكن أن تجمع هذه التناقضات إلا "فتح"، التي قالت بإذابة التناقضات الثانوية من أجل التناقض الرئيس بين الشعب الفلسطيني والوجود الصهيوني المحتل لأرضنا) وذلك (بنظريتها العلمية الواقعية) مؤكدا أن (مفاهيم "فتح" في الثورة الشعبية وحرب الجماهير هي المنطلق لأي معركة قادمة مع العدو الصهيوني...) مستفيدين من تجارب العالم ونرفض أن (نكون قرديين نقلد ونرفع الشعارات البراقة) ليختم المتحدث باسم حركة "فتح" مداخلته هذه عام 1968 التي مازالت صالحة لليوم 2018 بالقول (إن أهم قيمة للإنسان أن يفهم ما يقرأ، وأن يطبق على واقعه ما يستمده من نظريات، وأخيرا فإن تجارب الثورة الفلسطينية ستكوِّن نظريتها الذاتية من خلال المعاناة وحتما ستكون تجارب الشعوب إحدى مواد هذه النظرية الجديدة)
يقول المفكر العربي والقائد الفتحوي عثمان أبوغربية: (تتمحور الفكرة الاستقطابية لدى حركة فتح منذ البدايات حول أركان أساسية جوهرها يتمثل في:
‌أ. الوطنية الفلسطينية كضرورة وطليعة قومية ونقيض للكينونة الاحتلالية.
‌ب. أولوية خط التحرر الوطني وأهدافه زوال الاحتلال وتحقيق الاستقلال.
‌ج. اعتماد الوسائل المجدية لتحقيق الأهداف، حيث تطور الحركة رؤيتها وفقا للظروف الموضوعية للمراحل والوسائل والأساليب، على قاعدة اعتماد كافة أساليب النضال المجدية، والمناسبة لكل مرحلة وظروفها ومجمل العوامل المؤثرة.
‌د. تستند الحركة في كل ذلك على برامجها ونظامها الداخلي الذي يجري تطبيقه في إطار النظام الأساسي والنص الخاص بذلك في مطلع النظام الداخلي ومقدمته.
‌ه. العدو ليس دين أو قومية أو جنس ، وإنما هو الاحتلال.
‌و. وفي إطار هذا الجوهر أعلنت فتح هويتها على النحو التالي: فلسطينية الوجه،عربية القلب والأعماق، وإنسانية الآفاق. وقررت استخدام كافة الحوافز الإنسانية والقومية والوطنية والدينية التي تؤدي إلى تحقيق الأهداف).

حركة فتح والتعددية
في حركة فتح مساحة رحبة للتعددية والاختلاق ترفض بموجبها قداسة الفكرة الانسانية، وترفض الحصرية والمطلق، وترفض الجمود وإغلاق الفكر ولا تقر تصنيف الناس بين مؤمن وكافر، او تقدمي ورجعي، فتح التي هي بنت فلسطين وهي أم فلسطين وهي شبه فلسطين كما قال عنها العلامة هاني فحص، هي محطة التقاء، وسبيل ووعاء كافة الجهود ضمن أهداف وبرنامج محدد لتحرير فلسطين.
في حركة فتح حوار فكري دائم صاخب، وقد يكون صامتاً وهادئاً لا يظهر على السطح، وهي في تطور مستمر لذلك تسمع داخلها، وان كان لدى قلة من يدعون لهذا الفكر أو ذاك ما يتوافق مع الخطوط العامة لفكر فتح او يختلف، ومنهم من يدعون للعلمانية عقدة الاسلامويين الذين يشيطنون ما لا يفهمونه، او ما اقتصر فهمهم على مدلول بسيط منه دون رغبة بالتفكير.
قلنا أن في حركة فتح (وغيرها من التنظيمات السياسية اليوم وللمفاجأة منهم مفكرون اسلاميون معتبرون) من يدعون للعلمانية وفق تعريفات متناقضة وعديدة من تعريف العلمانية، كما عرفها الفيلسوف المتدين "جان لوك" في القرن ال17، أووفق تطبيق محدد في هذه الدولة او تلك، أو وفق مفاهيم عدة ما يطلق عليها العلمانية الشاملة، أو المؤمنة، أو الجزئية، أو تلطيفا للمصطلح الذي شوهه الاسلامويون عبر الزمن كما شوهه غلاة العلمانية أيضا بما يسمى اليوم "المدنية"، أو الابتعاد عن كل ذلك والدعوة للديمقراطية .
وفي جميع الأحوال لا نجد تعارضا بين (حق) التفكرهذا في حركة فتح، وبين التنظيم السياسي، بينما قد يجد الآخرون ذلك لأنهم يخلطون متعمدين بين الدعوي والسياسي في ذات الحزب، وحصرية فكرته وشموليتها، على نسق خلط ملوك اوروبا في القرون الوسطى بين تصرفاتهم السياسية واستخدام الكنيسة في تبرير هذه التصرفات دينياً.

العلمانية أم المدنية في حركة فتح
في داخل حركة فتح ومنذ العام 1968 حتى اليوم لم ترد اللفظة بأي معنى من المعاني في أدبيات الحركة الرسمية، وتحديداً في نظامها الداخلي الذي تطور كثيرا أو في تعبئتها الداخلية عبر ما تسميه الحركة (الأدبيات)، أو في برامجها السياسية الستة (للمؤتمرات السبعة حتى 2018)، إلا إن كان فهم "الدولة الديمقراطية على كل فلسطين لكل من فيها من مسلمين ومسيحيين ويهود" يعني العلمانية الكافرة عند أتباع هذه الأفكار القطعية.
ولكن من المفيد البدء بالإشارة هنا الى "ديمقراطية" الحركة-رغم تبنيها المركزية الديمقراطية- ورحابتها حيث أن النظام الداخلي لحركة فتح يقبل بانتماء أي كان من أي ديانة أو حتى جنسية للحركة بشرط الايمان بمبادئ وأهداف الحركة في تحرير فلسطين، فلا تمييز ولاتعصب، لذا ينتمي للحركة من المسلمين، والمسيحيين، واليهود اليوم الكثير حتى في المجلس الثوري لحركة فتح.
كما أن خلع رداء الحزبية والانتماءات الأيديولوجية السابقة لأي منتمي للحركة وبشكل فردي، كان ومازال شرطا، فالحزبية من حيث هي تعصب تنظيمي أعمى، سواء للفكرة أو الحزب، أو للقائد شيء مقيت استبدلته الحركة بالتعبير عن الولاء لفلسطين لا للتنظيم، كما أتاحت مساحة رحبة للحوار والتلاقح، والتصارع بين التيارات التي عجت بها الحركة في مرحلة زخمة من المراحل، حيث تصارع الماركسي والماوي والتروتسكي والإسلامي والقومي دون إرهاب أو تخويف او حدود للتفكير، او حواجز وهو ما ميز الحركة، ولا ننكر أنه نشأ على هامش هذه التيارات العديد من النباتات المتسلقة والعفن وثلة من الانتهازيين.
يتم الإشارة دوما لما ذكر أكثر من مرة في كتاب القائد الفتحوي صلاح خلف (أبو اياد) حول العلمانية، والتي أظهرها الكاتب الفرنسي (إريك رولو) مؤلف الكتاب عن حياة (أبوإياد) ضمن سلسلة مقابلات اجراها معه في العام 1978تحت عنوان (فلسطيني بلا هوية)، ورغم أن صلاح خلف لم ينظّر داخل الحركة ولا خارجها للمفهوم لأنه في تلك الفترة كان مفهوما إشكاليا وحمّال أوجه، الا أنه مما ورد في الكتاب التالي: (نحن بصفتنا قادة الحركة الفلسطينية، لسنا معارضين من حيث المبدأ للحدود المفتوحة. فنحن لا نزال أوفياء لمثلناـ أو لحلمنا وفقا لتعبير ياسر عرفاتـ الذي ينص على توحيد فلسطين في دولة علمانية ديمقراطية تضم اليهود والمسيحيين والمسلمين الذي يضربون بجذورهم في هذه الأرض المشتركة.).
يضيف (والحال هو أن الحدود المفتوحة تقود حتما إلى الحوار ثم إلى التفاهم بهدف قيام مثل هذا التوحيد بحيث يحل بدلا من المواجهة القومية والصراع الطبقي الذي سيواجه بين الجماهير العربية واليهودية من جهة وبين المستغلين والامبرياليين من جهة أخرى: أي بين هذه الجماهير وبين أولئك الذي ولدوا الحقد بين شعبينا قبل أن يقودوهما إلى الحرب.
إن العائق الذي يحول دون مثل هذا التطور لا يقف في معسكرنا. لأن من لا يريد السلام الشامل والنهائي هو حكومة "إسرائيل". كما أن من يخشى الحدود المفتوحة هم قادتها المتطرفون الذي ينظرون إلى هذه الحدود كتهديد يتهدد تماسك الدولة الصهيونية وسياستها التوسعية. وعلى العكس من ذلك، فإنهم بتعميقهم الهوة بين شعبينا وبتعهدهم للتوترات، يؤمنون طواعية الإسرائيليين، ويغذون خوفهم ويواصلون في الحين نفسه استيطان واستعمار ما يطلق عليه بيغن اسم «يهودا والسامرة»).
ويشار في مواضع اخرى من الكتاب لقوله (أولا عن نفسه ويقينا ان دار العلوم-في القاهرة- لم تكن تستجيب للمثال العلماني الذي ارتضيته لنفسي لأنها كانت وثيقة الصلة بالأزهر).ويقول أيضاً: (صحيح إنني كنت حفيد شيخ، وأن أبي مسلم لا يقطع فريضة إلا أن ميولي الطبيعية كانت تحملني على أن أنضم إلى ركب القومية العلمانية).
ورغم ذلك يمكننا القول بوضوح أن فهم صلاح خلف هذا-على فرضية أن (أريك رولو) كان يتعامل مع النقل بنفس عبارات صلاح خلف- لم يخرج عن الفهم العام لحركة فتح المتعلق بالدولة في فلسطين سواء أسميتها دولة مدنية أم علمانية أم ديمقراطية أم فتحوية، وهي التي طرحتها الحركة من قبل فاروق القدومي أبواللطف وأبوماهر (محمد راتب غنيم) قبل أن يصبح ياسر عرفات الناطق الاعلامي للحركة، طرحتها منذ العام 1968 بصيغة (دولة ديمقراطية يتعايش فيها اتباع الأديان الثلاثة (المسلمون والمسيحيون واليهود) متساوين في الحقوق والواجبات)، وهذه الدولة العلمانية (بالصيغة الجزئية، أو الايمانية، أوالمعتدلة بمفاهيم اليوم) بعد 30 عاما من طرحها فهمها الكثير من المفكرن ومنهم المفكرون الاسلاميون، بل وفهمها بعض "الاخوان المسلمين" ومنهم د.عبدالمنعم أبوالفتوح عام 2009 عندما كان عضوا في قيادة "الاخوان المسلمين" حينما قال أن لا حل للمشكلة الفلسطينية الا بدولة علمانية في فلسطين.
ياسر عرفات عندما سُئل عن ذلك في العام 1969 أتدعون لدولة علمانية؟ قال أنا لا أقول ذلك، وإنما ندعو لدولة ديمقراطية. وأبوعمار إذ تحرّج من الاستخدام للمصطلح ففى اعتقادي أنه كان متوافقاً مع فكر حركة فتح الوطنى الديمقراطي الاستقلالي الذي ينهل من نبع الحضارة العربية الإسلامية بالاسهامات المسيحية الشرقية، ولا يريد أن يخوض بجدال نظري لا سيما وأن (الإخوان المسلمين) كانوا ومازالوا- وفي عديد منهم اليوم- يرفعون سوط الترهيب والتخويف والتشكك والاتهام لكل من يجرؤ أن يتحدث بالعلمانية إلى أن كسر المحرم هذا "الإخوان المسلمون" أنفسهم، بالمتنورين فيهم وكثير خارجهم.
قامت حركة فتح منذ البداية بطرح مفهوم الدولة الديمقراطية في أكثر من مؤتمر، ومنها في مؤتمر القاهرة لنصرة الشعوب العربية عام 1969، حيث قال ممثل حركة فتح (نحن نقاتل اليوم في سبيل إقامة دولة فلسطينية ديمقراطية يعيش فيها الفلسطينيون بكل طوائفهم مسلمين ومسيحيين ويهودا في مجتمع ديمقراطي تقدمي ويمارسون عباداتهم وأعمالهم مثلما يتمتعون بحقوق متساوية) مضيفا (أن ثورتنا الفلسطينية تفتح قلبها وفكرها لكل بني الإنسان الذين يريدون أن يعيشوا في المجتمع الفلسطيني الحر الديمقراطي، وأن يناضلوا في سبيله بصرف النظر عن اللون أو الدين أو العرق)
(بدأت عملية المراجعة السياسية بعيدا عن "تابو" الميثاق الوطني والمبادئ والأهداف بإصدار "فتح" فكرة الدولة الديمقراطية من باريس عام 1969 ، حيث يعيش أتباع الديانات السماوية الثلاث في دولة ديمقراطية علمانية واحدة . وحمل هذا الإعلان ضمنيا أول اعتراف فلسطيني بوجود اليهود في فلسطين) ويضيف أحمد عبد الرحمن الى ما سبق في كتابه (عشت في زمن عرفات) الصادر عام 2013 في طبعته 2 عن دار الحرية (ص 429-430) ليقول (وبالطبع كان أبو عمار وراء إعلان باريس ، ورغم رفضه من (اسرائيل) – ما زال الرفض حتى اليوم- إلا أنه أثار الكثير من الاهتمام الدولي) والى ذلك يشير الكاتب لوثيقة أخرى مثيرة لفاروق القدومي بتلك الفترة تحت عنوان (إقامة السلطة السياسية في الضفة والقطاع) ويعلق أحمد عبد الرحمن موضحا: (أن هذه الوثائق كانت تبدو وكأنها مبادرات شخصية ، ولا أحد يجرؤ على تقديمها للرأي العام الفلسطيني ... )
تصدى القائد والمفكر العربي الفتحوي عثمان أبوغربية في أحد لقاءاته عام 2013 للمتحاورين من الكوادر داخل الحركة بين تبني أو عدم تبني مفهوم "العلمانية" بالأفهام المتعددة، ليحسم النقاش والجدل، بالقول: أن حركة فتح لم تكن يوما علمانية، وإنما هي تنظيم سياسي ثوري تحرري ديمقراطي تقدمي يسعى لقيام دولة مدنية ديمقراطية.
يكتب المفكر العربي من قيادة حركة فتح عثمان أبوغربية دون أدنى إشارة للمصطلح ذي الشجون والجدل المجتمعي ليقول: (بالمعنى الداخلي لا بد من المساواة في الحقوق والواجبات لجميع المواطنين في إطار الدولة الواحدة، في كل شيء، وبغض النظر عن الانتماء إلى أغلبية أثنية أو مذهبية أو دينية، أو إلى أقلية، لأن المواطنة يجب أن تتجاوز تقسيمات الانتماء الداخلي.)
كما يشار لورود مصطلح العلمانية في محاضرات القائد العروبي الفتحاوي أيضا هاني الحسن في لندن وهو يخاطب الغرب بمفهومهم عن العلمانية التي تعني المساواة والديمقراطية مع عدم إهمال دور الدين في الأمة والمجتمع والقيم والناس، وإنما عزل تأثير السلطة الدينية او السياسية في الحكم عن استغلال الدين في فرض الرأي، او تبرير السياسات، واحترام الأديان، والتعددية الفكرية.
ويشار أيضا للدكتور نبيل شعث من قيادة حركة فتح، الذي كتب مقالة في مجلة (شؤون فلسطينية) في عدد أيار/مايو من العام 1971 تحت عنوان (فلسطين الغد) قام بالتنظير فيها للدولة الديمقراطية -تعود الفكرة اليوم مع تعديلات تحت عنوان الدولة الديمقراطية الواحدة- باعتبارها فكرة حركة فتح واعتبرها من زاوية شكل النظام السياسي تشمل كل سكان فلسطين آنذاك عربا ويهوداً، وكل المنفيين الفلسطينيين موضحا: (ولن تكون دولة ثنائية القومية أو طائفية بل دولة موحدة علمانية.....ولن تسمح بالتمييز طبقا للعرق أوالدين أو اللون...والجميع فلسطينيين في حقوق متساوية دون أي حقوق خاصة أوامتيازات) ويرفض الانغلاق لهذه الدولة أوقيام دولة يهودية، بمعنى أنه جعل من دعوته المبكرة هذه حائطا صلبا ضد العنصرية أوالتميز اليهودي الذي يظهر اليوم تحت دعاوى (الدولة القومية اليهودية)، وقال في مقاله أيضا أن الدولة لن تكون مبنية على أساس الأديان الثلاثة وإنما (ستسمح للناس بممارسة معتقداتهم الشخصية بكل حرية).
ومهما يكن فهذه الآراء الجريئة التي ورد فيها مصطلح "العلمانية"، أو ما يعد عند المفكرين فكرا علمانيا (جزئيا) ليست عيبا ولا حراما او خطيئة وطنية او فكرية ، بل وتُعدّ وعيا مسبقا من أصحاب هذه الأفكار المتطورة، كما أوضحنا سابقا ضمن تطور المفهوم حتى لدى تنظيمات أو شخصيات أنِفت من التعامل مع العلمانية في البداية، وفي ذلك نقرر أن من ذكرناهم من قيادة الحركة فكروا واجتهدوا ولم يلزموا احدا باجتهادهم، ومنهم هاني الحسن الذي كان مؤمناً ومتديناً ويؤمن فعلاً بما آمن به كل من الغنوشي والمسيري ود.عبد المنعم أبو الفتوح أي ما يسمى (العلمانية المؤمنة) وهو ما نادى به هاني الحسن كرأي من داخل الحركة.
خاتمة:
نختتم بما بدأنا، بالقول: تبنت حركة فتح فكرا نشطا مِرحابا متطورا مازج بين: الوطنية (كمحبة وتخصيص وتكرس وتركيز وأولوية وإبداع) والكيانية (في كيان نضالي ثوري يمثل الوحدة الوطنية الجامعة ويبرز الشخصية العربية الفلسطينية) والاستقلالية (للإرادة الحرة) والتشاركية (بالديمقراطية والمدنية والتواصل والتداول) والعقلانية (والمدنية والاعتدال والوسطية واحترام الآخر) في إطار حضارتنا العربية الإسلامية الرحبة، والإنسانية التقدمية فهي بذلك قد اختطت لنفسها طريقا عمليا تستطيع بها أن تجمع الكل الفلسطيني، والكل المناضل العربي والإسلامي والمسيحي والحر العالمي نحو قضيته بعيدا عن التنظيرات الفارغة والمصطلحات المتشككة او المثيرة، وبعيدا عن مفاهيم الاستعلاء على الشعب وتراثه وتاريخه وحضارته، وبعيدا عن الإقصاء للآخر.