ملعونة السياسة، ودهاليزها أكثر تعقيداً من متاهة بافلوف، وهي لا تعرف الأخلاق، أو القيم العليا. السياسة لا تعرف سوى لغة المصالح، وتحقيق الأهداف بصرف النظر عن الوسيلة المستخدمة من أجل تحقيق المصالح والأهداف.
يقال: إن السياسة هي فن الممكن، وهذا ينطوي في بعض معانيه على مبدأ استخدام القوة، والقوة هنا لا تعني فقط الوسائل العسكرية والعنيفة، ولا تتوقف حسابات القوة على العوامل الذاتية فحسب، أو منظومة الحقوق التي يرتبها كل طرف لنفسه، أو يرتبها له التاريخ، أو المؤسسات المعنوية. تسمح السياسة باستخدام الكذب والمبالغة، والتضليل والخداع، والمناورة، إنها ماكرة بامتياز، والمشكلة غالباً ما تكون عند من يصدق مكر السياسة والسياسيين، وليست عند من يمارس المكر.
اعتاد الساسة الإسرائيليون على استخدام كل الوسائل التي تتيحها دهاليز السياسة ومكرها، ولكنهم دائماً أفلتوا من العقاب، وحصلوا على امتيازات ومكافآت من قبل الجمهور الإسرائيلي، ومن قبل عديد الدول القوية في العالم. لعل بنيامين نتنياهو يقدم نموذجاً صارخاً، فهو لا يخلو من كل صفات المكر السياسي، وأكثرها فجاجة ووضوحاً صفة الكذب والخداع. يقول نتنياهو: "إنه كان على وشك تجميد الاستيطان من أجل دفع عملية السلام، لولا أن الأدوار الأميركية تراجعت عن هذا المطلب".
كلام نتنياهو ينطوي على اتهام صريح للإدارة الأميركية بأنها هي من تتحمل المسؤولية عن فشل جهودها لاستئناف المفاوضات وعلى أنها أكثر وأعمق التزاماً، بالمشروع الصهيوني من متطرفي السياسة الإسرائيلية.
ربما كان ذلك صحيحاً، لكننا على الأرجح لن نعرف الحقيقة، فالإدارة الأميركية تفضل التزام الصمت حتى إزاء إهانات مباشرة وقوية تلقتها أكثر من مرة، من قبل مسؤولين إسرائيليين. هنا يعمل مبدأ الخداع والقوة، فالإدارة الأميركية في موقف حرج، فهي لا ترغب في رد الاتهام بما يعني أن إسرائيل هي التي تتحمل مسؤولية فشل مفاوضات السلام، وهي، أيضاً، غير قادرة بل عاجزة أمام التوظيف الإسرائيلي لعوامل وأدوات الضغط المتوفرة لها داخل الولايات المتحدة الأميركية.
بالنسبة للفلسطينيين، الأمر سيان، فالموضوعية تستدعي التوقف تماماً عن المراهنة على دور فاعل وإيجابي للولايات المتحدة إزاء دفع وإنجاح عملية سلام الشرق الأوسط. وتستدعي الموضوعية أيضاً توجيه اتهام صريح للإدارة الأميركية، بأن انحيازها المطلق لإسرائيل، قد أدى ويؤدي إلى إفشال عملية سلام، وأي عملية سلام، ولذلك من العبث الموافقة على استمرار الولايات المتحدة في احتكار هذا الملف.
يترتب على الفلسطينيين أن يعلنوا صراحةً وبالفم الملآن رفضهم لتفرد الولايات المتحدة في ملف السلام. نعلم أن ذلك ينطوي على متاعب، وأن الولايات المتحدة قادرة على ممارسة ضغوط فعالة على السلطة الفلسطينية، أصعبها ما يتعلق بالتمويل الذي تتفرد الولايات المتحدة في التحكم بضخه للسلطة، على الرغم من أنها ليست الطرف الأكثر تقديماً.
تصبح المشكلة بالنسبة للتمويل، مشكلة عربية بامتياز، إذ يترتب على العرب أن يتحملوا المسؤولية عن تقديم المال اللازم للسلطة وللمنظمة والشعب الفلسطيني، دون انتظار ضوء أخضر أميركي، ويترتب عليهم أيضاً أن يستجمعوا إرادةً كافية لرد الضغوط الأميركية عليهم.
وسواء كان نتنياهو صادقاً أم كاذباً فإن جملة الوقائع والسياسات التي مارستها وتمارسها حكومته تؤكد أن هذه الحكومة ليست مؤهلة على الإطلاق للخوض في مشروع تحقيق السلام، وأنها تمضي بقوة وثبات في سياساتها الاحتلالية والعدوانية.
لا نستدل على ذلك فقط بما يتعلق بتهويد القدس وتكثيف مصادرة الأرض والاستيطان، وممارسة العدوان وارتكاب جرائم الحرب، بل إن في أقوال نتنياهو ووزير خارجيته ما يستبعد إمكانية تحقيق السلام في ظل الظروف الراهنة.
بعد كل ما قيل عن شروط المفاوضات إلى أن أفصح نتنياهو عن تفضيله الحل المرحلي بعيد المدى وعن الشرط المستحيل الذي يطلب من الفلسطينيين الاعتراف بيهودية دولة إسرائيل، وبعد كل ما صرح به وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان، على الفلسطينيين أن يحزموا أمورهم على اعتبار أن السلام غير ممكن مع إسرائيل الراهنة، بصرف النظر عن طبيعة حكومتها.
ليبرمان كان قد استهزأ ممن يتحدثون عن معادلة الأرض مقابل السلام، واستهزأ ممن يتحدثون بتفاؤل عن إمكانية تحقيق السلام، أو قيام دولة فلسطينية خلال فترة قريبة، وهو من سحب اعترافه بشرعية السلطة الفلسطينية ولا نعتقد أن لحديثه نهاية حتى لو أنه القائل مؤخراً، بضرورة تأجيل المفاوضات وعملية السلام إلى عشر سنوات أخرى.
إذا كان الكذب واحداً من أهم صفات بنيامين نتنياهو، وهو لا يخجل من مواصلة الكذب، حتى أصبح اسماً آخر له، فإن الأمر لا يتوقف عليه، ولا يتوقف على نوع معين من الساسة أو حزب بعينه.
إيهود أولمرت رئيس الحكومة السابقة كان يشرب من النبع نفسه، وربما كان شمعون بيريس وهو رئيس الدولة الآن، واحداً من ينابيع الكذب والخداع والتضليل. يبدو بيريس داعية سلام، لكنه الأول الذي جمد تنفيذ المراحل الأولى من اتفاقية أوسلو، حين تولى رئاسة الحكومة خلفاً لرابين الذي ذهب ضحية اغتيال على يد أحد المتطرفين الإسرائيليين نهاية 1995.
كذب آخر امتحنته المسيرة التفاوضية، ذلك أن نشأته وتربيته وتجربته في الحياة كلها تشهد على أنه لا يستطيع مهما فعل، أن يغسل دماء الفلسطينيين التي تلطخ يديه وعقله. يقول رئيس حزب العمل إيهود باراك الذي يشغل منصب وزير الحرب في حكومة نتنياهو "إنه سينسحب من الحكومة إذا لم يحصل تقدم في عملية السلام خلال شهرين". من يدري إلى أين تصل رسالة باراك، وما مدى أهميتها في الأصل، وهل يلتزم بما يقول؟
لا أحد سيحاسب باراك الذي يحاول عبثاً تمييز نفسه وحزبه والتزلف لدى الإدارة الأميركية، دون أن يتغير حاله وحال حزبه المهترئ الذي تراجع حجمه ودوره وتأثيره في السياسة الإسرائيلية، إلى أن أصبح كتلة صغيرة قابلة للانقسام، ولا أمل لها في استرجاع مجد سابق، حين كان حزب العمل الأكبر في إسرئيل.
والسؤال لماذا يعطي باراك نفسه وحزبه هذا الوقت، وماذا ينتظر بعد كل ما وقع؟ ثم ماذا يعني انسحاب حزب العمل من حكومة نتنياهو، فهل يتيح انسحابه فرصة لحزب كاديما لكي يشكل حكومة؟
لو حصل ما يهدد باراك بفعله فإن الاحتمالات تدور بين خيارين، فإما أن نتنياهو سيتمكن من إعادة تشكيل ائتلاف حكومي بضم كتل أخرى وهو المرجح، وإما أن الأمور ستتجه نحو انتخابات مبكرة.
في الحالتين، لا أثر لانسحاب حزب العمل ولا مجال لتجديد الرهان على إمكانية وقوع تغيير في السياسة الإسرائيلية أو الأميركية، يتيح المجال لاستئناف المفاوضات ودفع عملية السلام. لقد فقدت عملية السلام الفرصة المتاحة، مما يعني أن كل حديث إسرائيلي عن السلام يندرج في إطار الكذب المتواصل والتضليل والخداع، ولكن الكارثة إذا صدق أحد من الفلسطينيين هذا الكذب وإلا كانوا مغفلين