في سجل التعازي في البابا شنودة، الذي افتتحته السفارةالمصرية في نيودلهي، وجدت نفسي راغباً في كتابة إشارات مختزلة من سيرة رجل استثنائيفي إيمانه ونُسكه وصلابة مواقفه. وبدون مبالغة، أحسست أن الراحل البابا شنودة الثالث،كان تجسيداً واقعياً نابضاً، لقول الله تعالى في سورة المائدة:» وَلَتَجِدَن أَقْرَبَهُمموَدَّةً للذِينَ آمَنُوا الَذين قَالوا إِنَّا نَصَارى، ذَلِكَ بأَن مِنْهُم قِسيسِينوَرُهبَانًا وَأَنهم لا يستكبرون». فهو ليس مجرد الرقم 117 في سجل بابوات الإسكندريةوبطاركة «الكرازة المرقصية»، وإنما هو علامة فارقة في تاريخ الكنيسة القبطية، جاء بعدعلامة أسبق، فارقة، كان يمثلها سلفه الراحل كيرولوس السادس، الذي عايش فترة جمال عبدالناصر. كان الراحل شنودة الثالث، سكرتيراً لكيرولوس، وقد تشبع منه روحاً وطنية عالية،ومحبة عميقة لفلسطين، وجدت تأصيلها في الدراسة الجامعية الأولى لشنودة متخصصاً في التاريخ،وهي الدراسة التي زاد عليها العلم بالآثار وتمحيص الشواهد الدالة على حضارة الأمة وتاريخها.

علاقة البابا شنودة بفلسطين، اتسمت بالوعي النوعي والثقافةالعميقة. لذا كان طبيعياً أن يرفض الصلح المنفرد مع إسرائيل، وضحى بعلاقات شخصه والكنيسةمع الرئاسة المصرية، خلال السنوات الخمس الأخيرة من حكم السادات، لكي يتمسك بموقفه.لاذ الرجل الى بعض معتكفاته، وهو الذي هذّب نفسه مبكراً بحياة الحرمان الطوعي، في مراحلاستكمال بنائه الروحي، وعاش سنوات أقسى من حياة السجون، كأن يخلو الى نفسه متعبداً،لست سنوات، في مغارة لا تقي من حرارة الصحراء ولا برودتها، صيفاً وشتاءً، أو يلتزمالدير لا يبرحه، في مرة أخرى، لعشر سنوات، دون أن يرى أطياف الحياة أو يسمع وقعها!

ظل موقفه السياسي، متلازماً مع إيمانه المسيحي، في زمنوعالم، تجري فيهما محاولات تطويع السياسة وحرف المسيحية وسائر الأديان، على طريق الشيطان.مضى المتبتل في سعيه، وفق قناعاته، يرد على أية محاولة إقصاء، بالإمعان في الرأي والموقف!

كان معلّماً للدين، وكاتباً صحفياً، وأستاذ تاريخ، ومختصآثار، وبارعا في السياسة، التي هي عنده في جانب منها حماية جمهور الكنيسة وحقوقالمواطنة لكل مسيحي مصري، على قاعدة الإخاء في الوطن!

لطالما تعكر مزاجه، بمفاعيل حوادث فردية، كان موضع خشيتهمنها، أن تنفتح الأبواب على مصاريعها، لتكاثر حالات الارتداد عن الدين بين المسلمينوالمسيحيين. فمن جانب، هو يتمنى أن يظل عنصرا الشعب المصري، على وئامهما وتساكنهماالوديع، دونما سجال يتخذ شكل استقطاب كل طرف، مواطنين الى طرفه الديني وآلمته كثيراًمظاهر الإثارة في الحالات التي كان التركيز فيها على المرأة. فالمسيحية التي يرعاهاشنودة الثالث في مصر، من جانبها، غير معنية بالتبشير في أوساط المسلمين، وكان باباواتالإسكندرية، على مر التاريخ، حريصين على إبقاء تسمية «الكرازة المرقصية» على حالها،علماً بأنها تعني منظومة التبشير التي قادها مرقص الإنجيلي، الذي دوّن السفر الثانيمن «العهد الجديد» في القرن الميلادي الأول، ومقصد رسالته التبشيرية، كان جمهور الوثنيينفي مصر الفرعونية وليبيا. وحافظ المسيحيون المصريون، على تنسيب الكنيسة الأولى، الىموطىء قدمها الأول، في ذلك العهد، وهو الإسكندرية!

ومثلما كتبت في سجل التعازي: إن العزاء الأهم للوطنيينالمصريين، وبخاصة المسيحيون منهم، في فقدان الرجل، هو أن الفقيد الذي ووري الثرى، تركرؤيته وتقاليد عمله الكنسي والسياسي، لتظل نبراساً لمن بعده. فقد أضاء الرجل، في مرحلةصعبة من تاريخ شعبه، مستهدياً بالقول الإنجيلي: ليس أحداً يوقد سراجاً ويردمه في حفرةأو يدسه تحت السرير، وإنما يعلقه على منارة لينظر الداخلون الى النور!