في 156 صفحة من القطع المتوسط، وبلوحة غلاف متقنة للفنان التشكيلي المقدسي سليمان منصور، صدرت عن دار الشروق للنشر والتوزيع/ عمّان، رام الله رواية "نُص أشكنازي" وهي التي أهداها الروائي المقدسي عارف الحسيني إلى القدس وإلى غزة وإلى زوجته، وجعلها خاتمة ثلاثيته الروائية بعد "كافر سبت" و"حرام نسبي". الجدير بالذكر أن الرواية فازت مؤخرًا بجائزة الناشرين من بين عدد غير قليل من الروايات.
وفي هذه الرواية المشغولة بدقة وإحكام تظهر مدينة القدس بشكل عام وحي الشيخ جرّاح بشكل خاص في بؤرة السرد، بحيث يتولّى أبطال الرواية التعبير بضمير المتكلم، كلٌّ منهم من وجهة نظره الخاصة، وبحسب قناعاته في الحياة وفي الموقف من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وبحيث يختفي الكاتب خلف شخوصه متيحًا لهم حرية التعبير عن أنفسهم وعن قناعاتهم بكل جلاء.
ومنذ البداية، من الأسطر الأولى في الرواية نرى الصهيوني، نُصّ الأشكنازي، إتسفيكا، زوج الصهيونية الأشكنازية رونيت التي لا تعترف باتفاق أوسلو، ولا بمناطق يسيطر عليها الفلسطينيون وفقًا لذلك الاتفاق، فالأرض "كلها أرض إسرائيل". تقول رونيت ذلك وهي مع زوجها في السيارة التي يقودها "إلعاد سائق جيش الدفاع السابق".
هنا، وابتداء من صفحات الرواية الأولى وحتى النهاية نكون أمام الإيديولوجيا الصهيونية المعادية للعلمانية، المتسترة بالدين وبالترهات الكاذبة التي تبرر الاستيلاء على أرض فلسطين، ولا تتورّع عن تقديم الأموال للمستوطنين لشراء الأسلحة من أجل قتل الفلسطينيين، ومن ثمّ لتبرير العنصرية والقتل والاستيطان والتهجير، وكل ما من شأنه إنكار حقّ الفلسطينيين في وطنهم، والتضييق عليهم وطردهم بمختلف الوسائل من أرضهم ومن بيوتهم، وما جرى لحي الشيخ جرّاح المقدسي من استيلاء على بيوت الفلسطينيين، وعلى المغارة التي أصبحت بالتدليس والكذب مكانًا مقدسًا لليهود أبلغ دليل على ذلك.
في الجهة المقابلة نرى المقدسية كاتبة المقالات في صحيفة مرموقة في رام الله، حورية، وزوجها الثاني نبيه بعد طلاقها من زوجها الأول، وهما المقيمان في حي الشيخ جراح، اللذان أصبحا بعد استيلاء الصهاينة على بيت الخالة رقية "جيران السوء" كما وصفتهما رونيت، في حين أن المنطق السليم يشير إلى أن جيران السوء فعلًا هم من جاءوا غزاة معتدين.
يحشد عارف الحسيني بذكاء واقتدار كل الممارسات العنصرية التي تمارسها بلدية الاحتلال وأجهزة الأمن الإسرائيلية ضد المقدسيين من فرض ضرائب متعدّدة عليهم، وتكبيدهم مخالفات مالية وغرامات، وحرمانهم من رخص البناء، ومصادرة أراضيهم وهدم بيوتهم، واتهامهم باللاسامية ومعاداة اليهود وممارسة الاعتقالات التعسفية ضدّهم، وتهويد أمكنتهم، يحشدها ويوردها بأسلوب مقنع في مجرى ممارسة الحياة اليومية لنبيه وحورية وأشخاص آخرين، ويدلّل في الوقت ذاته على حالة انهيار القيم التي أوصلَنا إليها المحتلّون الإسرائيليون حين يدّعي أحد الأشخاص، وهو ابن سعدية الجميلة بين النساء، أنه أحد أحفاد جدّ نبيه لأبيه، وهو لذلك يطالب بحقّه في الميراث بوصفه واحدًا من ورثة الجد المتوفّى، ولا يتورع ذلك الشخص عن الإقرار بحقيقة أنه ابن حرام من علاقة غير شرعية، لمجرّد أن يحظى بنصيبه من الميراث.
ورغم سوء الأحوال التي عاشها ويعيشها المقدسيون من جراء ممارسات الاحتلال الإسرائيلي التعسفية، فثمة ذكر في الرواية للإيجابيات التي كان يعيشها المجتمع الفلسطيني ومنه المقدسي بطبيعة الحال، أقصد هنا تلك الروح التشاركية التي سادت أثناء الانتفاضة الشعبية التي اندلعت عام 1987.
غير أن تلك الروح لم تلبث أن خمدت مع خمود الانتفاضة "والانتقال من الثورة إلى التسوية".
ولأن واقع الشعب الفلسطيني يرفض اليأس والهزيمة برغم المصاعب والانقسامات وفداحة الحرب والعدوان، فإن رواية "نص أشكنازي" تنتهي على نحو رافض للتنازل، رافض لليأس، أو كما جاء على لسان نبيه بلهجته المقدسية التي لاحظناها على امتداد صفحات الرواية كلما كان ذلك مطلوبًا: "القضية لسّا مْطَولة، واحنا بنبني لغيرنا، وغيرنا راح يبني للي بعده، بس بالآخر لن يكون إلا ما نُريد يا حورية".
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها