يحتفل الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات، في الأول من كانون الثاني، بالذكرى الـ50 لانطلاقة الثورة الفلسطينية، انطلاقة فتح، في ظرف حساس تمر به القضية الفلسطينية.

ووحدت 'فتح' الفلسطينيين حول الهوية والهدف، وارتقت بهم من حالة الشتات والتشتت إلى مستويات الكفاح من أجل تحقيق الأماني بالتحرر من نير الاحتلال وتقرير المصير. وكانت النشأة عام 1958م على يد مجموعة من الشباب الفلسطيني ممن شاركوا في العمل الفدائي في قطاع غزة في عام 1953م، أو في صد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م، وهم: ياسر عرفات، وخليل الوزير، وعادل عبد الكريم، وعبد الله الدنان، ويوسف عميرة، وتوفيق شديد. التقوا في الكويت، واتفقوا وتعاهدوا على العمل من أجل تحرير فلسطين، فكانت القاعدة التنظيمية الأولى لحركة فتح، وكان لهذه القاعدة امتدادات تنظيمية في الضفة الغربية وغزة ومصر والأردن وسوريا ولبنان والكويت وقطر. وقد بدأت بالتوسع سراً فلم يكن هناك شروط لاكتساب العضوية في التنظيم سوى التوجه نحو فلسطين، والنقاء الأمني والأخلاقي، وعدم التبعية لأي نظام عربي.

جاءت النشأة إثر نكبة عام 1948م وما تلاها من أحداث ولدت شعوراً بالمرارة من عدم قدرة الزعامات الفلسطينية التقليدية على التحرك، وانشغال الدول العربية بمشاكلها القطرية.

ففي الفاتح من كانون الثاني/ يناير عام 1965م كانت البداية وكانت الطلقة الأولى، حيث تسللت المجموعة الفدائية الأولى لحركة فتح إلى داخل الأرض الفلسطينية المحتلة، وفجرت نفق عيلبون الذي يتم من خلاله سحب مياه نهر الأردن لإيصالها إلى صحراء النقب، لبناء المستوطنات من أجل إسكان اليهود المهاجرين فيها، وعادت المجموعة الفدائية إلى قواعدها بعد أن قدمت شهيدها الأول أحمد موسى أثناء العملية، لتعمّد بالدم باكورة مقارعتها للاحتلال.

 وجاء في البلاغ العسكري رقم (1):

'اتكالاً منا على الله، وإيماناً منا بحق شعبنا في الكفاح لاسترداد وطنه المغتصب، وإيماناً منا بموقف العربي الثائر من المحيط إلى الخليج، وإيماناً منا بمؤازرة أحرار وشرفاء العالم، لذلك تحركت أجنحة من قواتنا الضاربة في ليلة الجمعة 31/12/1964م، 1/1/1965م وقامت بتنفيذ العمليات المطلوبة منها كاملةً ضمن الأرض المحتلة، وعادت جميعها إلى معسكراتها سالمة. وإننا لنحذر العدو من القيام بأية إجراءات ضد المدنيين الآمنين العرب أينما كانوا؛ لأن قواتنا سترد على الاعتداء باعتداءات مماثلة، وستعتبر هذه الإجراءات من جرائم الحرب. كما وأننا نحذر جميع الدول من التدخل لصالح العدو، وبأي شكل كان، لأن قواتنا سترد على هذا العمل بتعريض مصالح هذه الدول للدمار أينما كانت. عاشت وحدة شعبنا وعاش نضاله لاستعادة كرامته ووطنه'.

القيادة العامة لقوات العاصفة 1/1/1965م.

في حزيران/ يونيو عام 1967 هزمت إسرائيل الجيوش العربية الرسمية واحتلت ما تبقى من الأرض الفلسطينية وأجزاء واسعة من الأراضي العربية المتاخمة، فسارعت حركة 'فتح' في أعقاب الهزيمة إلى إعادة تشكيل الخلايا والمجموعات السرية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فنفذت أكثر من 130 عملية فدائية خلال الشهر الأول بعد الاحتلال.

لم تكن معركة الكرامة في 21 آذار/ مارس 1968 انعطافه حاسمة في المسار الكفاحي لحركة 'فتح' وجناحها الضارب 'قوات العاصفة'، بل علامة فارقة في تاريخ النضال الفلسطيني بشكل عام. إذ تمكنت ثلة من الفدائيين تناهز 300 مقاتل، مدعومة بوحدات من الجيش الأردني من صد عدوان عسكري إسرائيلي مدجج بأحدث أنواع العتاد. فتراجع الجيش الإسرائيلي الغازي بعد معركة شرسة وقد مني بخسائر فادحة.

في عام 1982م خاضت الثورة الفلسطينية معركة أسطورية في مواجهة الجيش الإسرائيلي، في 6 حزيران/ يونيو 1982م بدأ الجيش الإسرائيلي بقصف جوي ومدفعي لمدن الجنوب اللبناني، ثم تحرك براً وكان الهدف المعلن من قبل إسرائيل تدمير منظمة التحرير الفلسطينية. وبدأت المواجهة التي استبسل فيها أشبال ورجال فتح، فكانت قلعة شقيف شاهداً، وكان الصمود الأسطوري في بيروت والذي استمرّ 88 يوماً من الحصار والقصف البري والجوي والبحري للمقاومة الفلسطينية التي فضّلت الموت على الاستسلام، لكن أمام الأوضاع الداخلية التي كان يعيشها الشعب اللبناني، ولوقف العمليات الإسرائيلية التي استهدفت المدنيين أيضاً، اضطرت منظمة التحرير للخروج من بيروت، فرحل ما يقارب 12 ألف مقاتل فلسطيني إلى بعض الدول العربية في شهر آب/ أغسطس 1982م، وبدورها انتقلت القيادة الفلسطينية إلى تونس.

في عام 1987م اندلعت انتفاضة الحجارة التي عمت المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية، وتصدرت حركة فتح الجماهير الفلسطينية لتدير دفة الانتفاضة، وكان الشهيد خليل الوزير (أبو جهاد) الموجه والقائد؛ ما دفع بالموساد الإسرائيلي إلى استهدافه واغتياله في تونس، إلا أن هذا لم يوقف لهيب الانتفاضة، فقبل أن تكمل عامها الثاني، كان المجلس الوطني الفلسطيني المنعقد في الجزائر بتاريخ 15 تشرين الثاني 1988م يعلن على لسان الرئيس الراحل ياسر عرفات قيام دولة فلسطين.

خاضت فتح في مطلع تسعينيات حرباً سياسية فرضت من خلالها تواجداً وتمثيلاً للشعب الفلسطيني في مؤتمر مدريد للسلام الذي عقد في تشرين الثاني/ نوفمبر 1991م، عندما شكّلت وفداً فلسطينياً برئاسة الدكتور حيدر عبد الشافي، وعضوية شخصيات فلسطينية من داخل الأراضي المحتلة، لتمثيل الشعب الفلسطيني في هذا المؤتمر.

وفي 13 أيلول/ سبتمبر 1993م، وقع اتفاق أوسلو بين قيادة منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية، وكانت عودة كوادر وقيادات الثورة من الخارج إلى أرض الوطن بتاريخ 4 أيار/ مايو 1994م، ثم الرئيس الراحل ياسر عرفات في الأول من تموز/ يوليو من نفس العام، لتبدأ مرحلة بناء مؤسسات الشعب الفلسطيني بعد أن أقر المجلس المركزي الفلسطيني في دورته المنعقدة في تونس بتاريخ 10 تشرين الأول/ أكتوبر 1993م قيام أول سلطة وطنية فلسطينية على أرض الوطن، وانتخب أبو عمار من قبل الشعب الفلسطيني رئيساً لها في انتخابات ديمقراطية نزيهة في 20 كانون الثاني/ يناير 1996م إلى جانب انتخاب أعضاء المجلس التشريعي الفلسطيني والذي فازت فتح بغالبية مقاعده.

بعد 50 عاماً من النضال والتضحية والفداء، ما زالت حركة فتح التي نسجت خيوط الحلم الفلسطيني هي المعبرة عن ضمير الشعب بأفكارها الوطنية والوحدوية والواقعية، وما زالت بيدها الدفة، وبوصلتها اليوم تتجه نحو إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة بعد أن تمكنت من المحافظة على الهوية الفلسطينية، واستقلالية القرار الوطني، وإعادة القضية الفلسطينية إلى دائرة الضوء، وتحقيق الاعتراف العالمي بمنظمة التحرير الفلسطينية (الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني)، وبالسلطة الوطنية الفلسطينية، وما زالت تتمسك بالثوابت الفلسطينية وفي مقدمتها الحق في تقرير المصير، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس في حدود عام 1967م، وحق اللاجئين في العودة والتعويض.

ورغم الضربات المتلاحقة التي كيلت لحركة المقاومة الفلسطينية التي انطلقت برصاصة فتح الأولى في الفاتح من كانون الثاني/ يناير 1965 خلال مسيرتها الطويلة، إلا أن صمودها المشهود في وجه المحن، واستماتة قادتها وكوادرها في صيانة القرار الوطني المستقل من كل محاولات الاحتواء والطمس والسيطرة، ونضالها الدؤوب من أجل تحقيق طموحات الشعب وتطلعاته، أوصلتها إلى ما هي عليه اليوم؛ رائدة في إدارة المؤسسة الفلسطينية العصرية وتدعيم أسس السلطة الوطنية والسير بثبات نحو الدولة العتيدة، تماما مثلما كانت لعشرات السنين تقود المسار الكفاحي والسياسي للشعب نحو تحقيق أهدافه الوطنية وحقوقه الشرعية