في عصرنا الحالي، يعيش العالم حالة من الارتباك الكبير ناجمة عن انهيار مشاريع "التقدم الكبرى" التي سادت القرن العشرين. فمن جهة، انتهت "اشتراكية النموذج السوفييتي"، ومن جهة أخرى، يواجه النموذج الرأسمالي الغربي تحديات مصيرية، مع تآكل نظام "الرأسمالية الاستهلاكية" وتراجع نموذج دولة الرفاهية. هذه التحولات الكبرى أعادت تشكيل قواعد الصراع العالمي والنظام الدولي ولو ببطئ نحو نهاية النظام الدولي أحادي القطب بظهور أقطاب متعددة، قد تساهم لاحقًا بشكل إيجابي في تغير المعادلات المتعلقة لقضيتنا الوطنية الفلسطينية. حيث باتت أدوات السيطرة الاقتصادية والسياسية أكثر تعقيدًا الآن، وأصبح جزء من مكونات منظمات الدولة الإسلامية وداعش والنصرة كجزء من الأدوات التي تُوظَّف لتحقيق أهداف الهيمنة في الشرق الأوسط وفق ما تم من مقايضات للأدوار في أفغانستان والسودان وسوريا، وكما هو قائم من مساندة عدد من دول الخليج العربي وأدوارها إضافة إلى حلفاء أميركا وأقطاب النيوليبرالية الجديدة.

ورغم هذه التحولات الكبرى التي يشهدها العالم منذ فترة، تبقى القضية الفلسطينية مركزية في الحسابات الدولية، خاصةً مع استمرار المحاولات الأميركية لترتيب المنطقة بما يخدم مصالحها الاستراتيجية مستفيدة من تلك التحولات في ظل انشغال روسيا بحرب الوكالة في أوكرانيا والصين بالحرب الاقتصادية وأزمات بحر الصين وتايوان إضافة إلى حماية مشروعها الاستعماري بالمنطقة والمتمثل في إسرائيل وضمان هيمنتها وتفوقها. ومع عودة الحديث عن دونالد ترامب ومشروعه لتسوية الصراعات الإقليمية، تظهر معالم رؤية تستند إلى فرض وقائع جديدة على الأرض، بعيدًا عن أي تسوية عادلة تُلبي حقوق شعبنا الفلسطيني المشروعة والغير قابلة للتصرف.

- صفقة القرن، إرث يعيد تشكيل المنطقة

شكلت "صفقة القرن" خلال ولاية ترامب الأولى ملامح رؤيته للمنطقة، حيث سعت إلى إعادة ترتيب الأوراق بما يخدم إسرائيل أولاً وأخيرًا وقيادتها للمنطقة. ركزت الصفقة على التطبيع العربي- الإسرائيلي وإلغاء حقوق الفلسطينيين السياسية أو حتى مشروع مبادرة السلام العربية، في محاولة تحويل القضية الفلسطينية إلى مسألة إنسانية واقتصادية بدلاً من كونها قضية تحرر وطني وحقوق سياسية.

ورغم تعثر الصفقة، إلا أن نهجها لم ينتهي. ترتيبات مماثلة ظهرت في أماكن أخرى من المنطقة، كما هو الحال في لبنان وسوريا وما قبل ذلك في العراق ودول أخرى وفق تداعيات المرحلة الأولى (ما يسمى بالربيع العربي) من تنفيذ رؤية الشرق الأوسط الجديد التي يجري تنفيذ مرحلتها الثانية اليوم. فالتدخلات الأميركية هناك، خاصة بعد وقف إطلاق النار في لبنان وترتيبات الاستقرار الهشة فيه وما جرى من ترتيبات في سوريا، ضمنت مصالحها ومصالح إسرائيل من خلال خلق وقائع جديدة تهدف إلى إبقاء هذه الدول في حالة ضعف وانقسام داخلي يمنع تشكيل تهديد استراتيجي مستقبلي.

وعلى صعيدٍ آخر، ورغم العلاقات المعلنة بين ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، تشير بعض المصادر إلى وجود توتر خفي بين الجانبين. فقد أرسل ترامب رسائل مقلقة لنتنياهو، مما يثير تساؤلات حول مستقبل العلاقة بينهما وتأثير ذلك على السياسات الإسرائيلية الداخلية، خاصة في ظل التحديات التي تواجهها الحكومة الإسرائيلية الحالية، والتي من المرجح أن تشهد تغييرات بهدف تسهيل تمرير رؤية ترامب في المنطقة.

بالإضافة إلى ذلك، تتجه الأنظار اليوم إلى الضفة الغربية بشكل أكثر خطورة من ذي قبل، حيث يشير عدد من التقارير والتسريبات إلى أن ترامب قد يدعم خطط نتنياهو لضم أجزاء من الضفة وتوسيع المستوطنات، مما قد يؤدي إلى خلق كانتونات فلسطينية معزولة، وهو ما يهدد بتقويض مشروع الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة والتواصل الجغرافي على كل الأراضي المحتلة وعاصمتها القدس التي كان ترامب قد اعتبرها عاصمة لإسرائيل ونقل سفارته إليها.

في ظل هذه المعطيات، يبدو أن ترامب يسعى إلى إعادة تشكيل المشهد السياسي في الشرق الأوسط بما يتوافق مع مصالح الولايات المتحدة وإسرائيل وامبراطورية المال، مستخدمًا في ذلك مزيجًا من الضغوط والتهديدات لتحقيق أهدافه. هذا التوجه قد يؤدي إلى فرض وقائع جديدة على الأرض، كما حدث في لبنان وسوريا، حيث تم التوصل إلى ترتيبات تضمن المصالح الأميركية والإسرائيلية، مما يثير تساؤلات حول مستقبل المنطقة في ظل هذه السياسات.

لذلك، تتطلب المرحلة المقبلة من الفاعلين الإقليميين، خاصة منا نحن الفلسطينيين، تقيماً دقيقًا للسياسات الأميركية المرتقبة والاستفادة من دروس الماضي ومراجعات جادة واقعية للسياسات، والعمل على صياغة استراتيجيات تتناسب مع التحديات الجديدة، لضمان حقوقنا ومصالحنا الوطنية في ظل المتغيرات الدولية والإقليمية المتسارعة حتى لو أبقينا على معقولية التفاؤل بالمتغيرات الناتجة عن عدوان الإبادة والاقتلاع الإسرائيلي والذي تم الوصول بخصوصه لاتفاقية وقف إطلاق النار، الموضوع الذي سأتناوله وتداعياته في المقال القادم.

- رؤية ترامب، كانتونات معزولة وإجهاض المشروع الوطني الفلسطيني

مع عودة ترامب إلى المشهد، تتضح ملامح استكمال رؤيته للمنطقة والتي تقوم على:

1. في الضفة الغربية، بعد توجيهات ترامب السابقة بالموافقة على الضم الإسرائيلي للقدس، فقد وعد ترامب نتنياهو خلال ولايته الأولى بدعم خطط الضم وتوسيع المستوطنات. إن ذلك يكشف عن هدف أكبر يتمثل في تفكيك الضفة إلى كانتونات معزولة، مرتبطة بعضها ببعض بطرق تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة. هذه الكانتونات، التي قد تُقدَم لنا أو تعرض علينا ككيان سياسي أقل من دولة وأكبر من حكم ذاتي، تُجهض عمليًا أي فرصة لقيام دولة فلسطينية ذات سيادة ومتواصلة جغرافيا مع قطاع غزة وتنفيذ الحقوق الوطنية.

هذا المشروع لا يهدف فقط إلى حرمان شعبنا الفلسطيني من حقوقه غير القابلة للتصرف، بل يسعى أيضًا إلى تكريس واقع الاحتلال والاستيطان كجزء لا يتجزأ من ترتيبات الوضع الجيوسياسي الواقع بالمنطقة.

2. في قطاع غزة، تركيز ترامب على ترتيبات طويلة الأمد في القطاع، مثل وقف إطلاق النار تحت شروط أميركية تفرض على السياسة الإسرائيلية وعلى حماس من خلال الوسطاء المصريين والقطريين والأتراك، يعكس هدفًا استراتيجيًا بإبقاء القطاع ككيان منفصل محاصر، معزول تمامًا عن الضفة الغربية، تحت إدارة ذاتية محدودة لا يُعرف شكلها بعد وهو ما سمي في الغرب "اليوم التالي"، تخضع للرقابة الإسرائيلية والأميركية. هذه الترتيبات تضمن استبعاد غزة من أي مشروع وطني فلسطيني شامل، ما يؤدي إلى تقسيم الفلسطينيين سياسيًا وجغرافيًا أرضًا وشعبًا.

3. ترتيبات تجارية إقليمية، ضمن رؤيته، لا يقتصر هدف ترامب على الجوانب السياسية فقط، بل يسعى أيضًا إلى تعزيز الترتيبات التجارية والاقتصادية الإقليمية التي تضمن اندماج إسرائيل في المنطقة كقوة اقتصادية مهيمنة. ومن خلال ربط مصالح دول الخليج وإسرائيل اقتصاديًا، يُكرّس ترامب واقعًا جديدًا يجعل من إسرائيل شريكًا رئيسيًا لهذه الدول من خلال الشركات الكبرى متعددة الجنسيات، بما يضمن استمرار الهيمنة الأميركية والإسرائيلية على موارد المنطقة وأسواقها وتحديدًا قطاع الطاقة والنقل والتكنولوجيا والزراعة.

- التحديات أمام الشعب الفلسطيني

إن ما يحدث اليوم ليس مجرد إعادة ترتيب سياسي للمنطقة، بل هو محاولة شاملة لتفكيك المشروع الوطني الفلسطيني التحرري. لذلك فإن هنالك عدد من التحديات التي يتوجب مواجهتها:

1. على المستوى الداخلي الفلسطيني، إنهاء الانقسام وإعادة بناء الوحدة الوطنية الواسعة على أسس من الديمقراطية والمشاركة، بقرار وطني مستقل بعيدًا عن المؤثرات الخارجية، لتجاوز الضغوطات المتعلقة بما يسمى "السلطة المتجددة"، تجدد بناء وتطوير منظمة التحرير الفلسطينية كبيت جامع بدورها القيادي كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني وصاحبة الولاية السياسية والقانونية على الجغرافيا الفلسطينية. الأمر الذي يستدعي، صياغة رؤية سياسية جديدة تُعيد الاعتبار لحقوق شعبنا الفلسطيني وللقضية التحررية الوطنية مكانتها الشمولية، وتتصدى لمحاولات تصفية القضية، وذلك من خلال التنفيذ السريع لما تم الإتفاق عليه في "بكين" لأمكان إدارة شؤون غزة وفق ما نصت عليه بنود ذلك الإتفاق من خلال تشكيل حكومة التوافق الوطني الفلسطينية للتمكن من تولي إعادة الإعمار بحاضنة شعبية واسعة لهذه الحكومة تمكنها من العمل على الأرض، وحتى لا تبقى هنالك ثغرات تحاول استغلالها بعض الأطراف الإقليمية والدولية لفرض تدخلاتها بالشأن الوطني وفرض إدارة غير وطنية في غزة. ومن ثم توجيه الدعوة من قبل سيادة الرئيس أبو مازن بصفاته الاعتبارية لاجتماع وطني فلسطيني واسع بحضور الكل الوطني بما لا يقتصر على الفصائل فقط، وذلك لحين تصويب عضوية المجلس الوطني الفلسطيني وانعقاده حسب الأصول، وتنفيذ الاستحقاق الديمقراطي لشعبنا بإجراء الانتخابات العامة باعتبار أن الشعب هو مصدر السلطات.

2. على المستوى الإقليمي والدولي، تعزيز العمل مع الحركات الشعبية والمجتمعات المدنية والتكتلات السياسية والاقتصادية الناشئة التي أثبتت دعمها المتزايد للقضية الفلسطينية، خاصةً في ظل تصاعد التضامن الدولي ضد الاحتلال وسياساته العنصرية وجرائم الإبادة والاقتلاع العرقي والمحارق التي نفذت في قطاع غزة خلال الفترة الماضية، كما في الضفة الغربية خاصة بمخيماتها.

3. تطوير الشراكة مع حركات المقاطعة الدولية لتوسيع نطاق تأثيرها على الحكومات والشركات المتورطة في دعم الاحتلال، واستكمال العمل الدبلوماسي السياسي في المحافل الأممية من أجل الحصول على مكانة دولة كاملة العضوية بهيئة الأمم والعمل مع التحالفات الدولية الناشئة لمواجهة سياسات الولايات المتحدة في تقديم الحصانة لإسرائيل، ومن أجل عزلها دوليًا سندًا للتهم التي تواجهها أمام القضاء الدولي ومكانة كيانها العنصري.

- بين التهديدات والأمل

رؤية ترامب القادمة، التي تجمع بين التهديدات والمصالح الاقتصادية والسياسية وتمكين امبراطوريات المال العالمية من دور لها في المنطقة، تُظهر أن شعبنا الفلسطيني أمام لحظة حاسمة في تاريخه. فإما أن نتمكن من بناء استراتيجية مقاومة متكاملة موحدة شاملة وعقلانية تأخذ ظروف شعبنا ومتغيرات الحالة في العالم والإقليم بالحسبان، تمكننا من الوصول إلى حقوقنا السياسية الوطنية، أو أن تستمر محاولات تفكيك مشروعنا الوطني التحرري من أعداء شعبنا.

فرغم كل الضغوط والتهديدات، يبقى الأمل في صمود شعبنا الفلسطيني ودعمه الدولي المتزايد كما بدى واضحًا من تحولات بالرأي العام العالمي، خاصةً في أوروبا والولايات المتحدة نتيجة جرائم ومحارق العدو الإسرائيلي في غزة تحديدًا وصمود شعبنا ومقاومته هنالك رغم حجم الألم. فالعدالة التي ينشدها الشعب الفلسطيني ليست مجرد مطلب وطني، بل هي قضية إنسانية تمس ضمير العالم ومسوؤلية دولية قانونية وسياسية وأخلاقية، ما يفرض على الجميع مواجهة مخططات الهيمنة والتصفية، والعمل على تحقيق سلام عادل يُنهي الاحتلال أولاً ويُعيد الحقوق لأصحابها الشرعيين وبالمقدمة منها حقنا في تقرير المصير والاستقلال الوطني على طريق هزيمة المشروع الصهيوني، ليكون هنالك مكانًا للعدالة والمساواة والكرامة.