إلى متى سيبقى البعض، من أبناء شعبنا الأبرياء المسالمين، ضحية لمفاهيم خاطئة وسائدة، ألصقت زورًا بالمعاني النبيلة للاستشهاد والتضحية والصمود  والجهاد، فحياة الإنسان الفلسطيني وروحه ونفسه المقدسة ودماؤه المسفوكة، وبيته وأرضه وأرزاقه وممتلكاته المدمرة، باتت مجرد صور ملهمة، لجماعات وجماهير "الكنبة" ومثلهم البارعين في ضخ العبارات الكبيرة الجوفاء، والثرثرات والاستعراضات الكلامية على وسائل التواصل الاجتماعي، ومحترفي المعارك "الفيسبوكية والتلغرامية  والتكتوكية"، فتبدو آثار حملة الصهيونية الدينية الهمجية، وما فيها من مجازر في سياق عمليات الإبادة الدموية الممنهجة، المبثوثة على الهواء مباشرة، كمادة بصرية منقطعة الصلة بالذهن والبصيرة، يمررها هؤلاء بعيدًا عن مفاعل العقل الانساني، ولا يطبقون عليها قواعد وأحكام المنطق والموضوعية والواقعية. ذلك أن الساكنين من فلسطينيين وعرب وغيرهم من أتباع تقديم وتفضيل الموت على مبدأ الحياة، نراهم لا يتوقفون ليلاً ونهارًا عن حض المواطنين الأبرياء، النساء والأطفال والشيوخ والعجائز والكهول المقهورين المحرومين من أدنى مقومات الحياة، ليس على تحمل جحيم نيران جيش الاحتلال الاسرائيلي وحسب، بل يتمنون لهم الموت في خضم جحيم الإبادة، ذلك أنهم يعتبرون الموت مجانًا فوزًا عظيمًا.

المؤلم أن المتفرجين على شريط الإبادة، يرون الموت "بطلاً" يظهر في صورة أجساد أطفال بلا رؤوس أو أطراف، وفي صورة حامل خرج جنينها من بطنها بفعل شظية قنبلة، وفي صورة عجوز أو شيخ قضى تحت الركام، أو في صورة صحافي فقأ صاروخ عدسة كاميرته قبل أن تقطع شظاياه شرايين قلبه، لقطع الحقيقة والحقائق والوقائع عن طالبها، ويرونه في طفل يصرخ باكيًا، ومزاحمًا للحصول على بضع لقيمات، ويرونه بطلاً في جثمان مواطن بريء ما زال منذ 326 يومًا تحت الركام، ويرون الموت بطلاً في ضحية حرب ظالمة، مواطنًا فلسطينيا شهيدًا محمولاً على عربة يجرها حمار مخصصة لنقل البضائع، لتعذر وجود أو وصول سيارة إسعاف، يرون الموت بطلاً في صورة طفل يموت من سوء التغذية، أو الأوبئة التي لا تقل شدة فتكها عن قنابل وصواريخ وقذائف جيش الاحتلال، فالمحشوة أدمغتهم بمفاهيم خاطئة عن البطولة يعزون أنفسهم بهذه الصور للبطل، لأن طبيعة العقل الفردي والجمعي لمثل هذه الشرائح ما زال قاصرًا عن فهم المعنى الحقيقي للبطل، ومن هو البطل، ولا يمتلك أدنى معلومة عن معايير الصمود، ومقومات المقاومة، فالمعادلة عند هؤلاء كالتالي: الفلسطيني يموت إذن هو البطل، ولم يكلفوا أنفسهم السؤال عن الأهداف التي حققها صانعو هذه المفاهيم، التي تعتبر في منطق الشرائع السماوية والقوانين الإنسانية خطيئة "جريمة" بحق الحياة، فهذا الطرح يتساوق مع المقولة العنصرية للصهيونية الدينية والسياسية: "الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميت" وهذا ما يدفعنا لأخذ مبدأ الحياة سبيلاً للانتصار على "البطل" الذي يأتينا بصور الموت في جحيم الإبادة الإسرائيلية والحروب وما دونها.  فالفلسطيني مؤمن بحتمية الموت القدري، أما هذا الموت الذي يراه المصفقون "بطلاً" فلا نراه خارج هذه المعادلة: الصبر والصمود والعمل العقلاني والسياسة الواقعية والتضحية تساوي الثبات والتجذر في أرض الوطن، والبناء وتحرير الإنسان وتنمية مقدراته، والانجازات الملموسة للأجيال، ستؤدي حتما للانتصار والحرية والاستقلال والسيادة. فالحياة في ظل هذه المعادلة أصعب بملايين المرات من الموت في معارك فئوية، لا وطنية، وأرض الوطن تحتاج شعبًا حيويًا مفعمًا مؤمنًا بفلسفة الحياة، وزاخرًا بالطاقات والعمران والإبداعات، والبرهان على إيمانه بالسلام، مع ثباته على مبدأ انتزاع الحق والحقوق، واعتبار الاستسلام من أسماء المستحيل.