ليست الوطنية جعجعة كلام، وزحمة تنظير، وزوابع شعارات وثرثرات فنجانية، إنها فكر ومبادئ وثقافة ومنهج عمل، وسلوك شخصي، منسجم مع مسارات الإخلاص الفعلي للوطن.

الوطنية كالهواء والماء والغذاء، كضوء الشمس ونور القمر، هي الطاقة الأعظم المانحة للإنسان المعنى الحقيقي للحياة، والشرط الواجب توفره لضمان سلامة عقله وجسمه الفردية، وسلامة صحة بناء المجتمع الإنساني، وفي الدائرة الأوسع، ديمومة الشعب بكرامة وحرية وسلام على أرض وطنه التاريخية والطبيعية.

الإنسانية الخالصة هي معدن الوطنية العجائبي، وبهذا يكمن سر مناعتها اللانهائية، فالوطنية ضد التجمد والذوبان والتمييع، نقية عصية على الخلط، لينة كالحرير وصلبة أكثر من الألماس، لكنها لا تطوى ولا تكسر، ولا تحور، ولا تزور، ولا قدرة للكذابين والمنافقين، والأفاقين على تطويعها، أو طرقها، أو صهرها أو صبها في قوالب جاهزة، شفافة تحفز البصيرة، لا تستر ولا تعمي بصرًا، ينفضح مستخدمها لأغراضه الشخصية والفئوية عند أول امتحان، أما المخدوعون والمضللون، فذنبهم أنهم تزاحموا وهم ينتظرون في "محطة ما" دعاهم صاحبها ليعبئوا أدمغتهم وقلوبهم منها مجانًا، فيتملك حق تقرير مصائرهم، فيمنح هذا شهادة حياة، ويمنح ذلكم شهادات موت، فيظنون أنهم اكتسبوا الوطنية، لأن "صاحب المحطة" هذه قد أقنعهم أنه وكيل الخالق، الوصي على كيانهم الإنساني، وزاد أن منعهم من المعرفة والعلم، وطمس رؤاهم، وزجهم في حلقات تجهيل، منعتهم وتمنعهم من ملاحظة كيف أن للكائنات والمخلوقات ما دون الانسان من المفترسات حتى عالم الفراشات في الدنيا أوطانًا، ولكل جنس أو فصيل منها وطنيته الخاصة، رغم أننا لا نفقه مفردات خطاباتها الخاصة، لكننا نعلم من سلوكياتها وأنماط حيواتها أسباب استمرارها ووجودها، كعلمنا ويقيننا أن هذا النوع من "المحطات الفئوية" توزع أوهامًا، وتوزع أمراضًا نفسية، وتخلفًا، منتجًا للعجز، وإيماننا بأن "المحطات الوطنية"، جاذبة للقدرات والطاقات الوطنية الخلاقة والمبدعة تلقائيًا، حيث يجد الوطني فرصته للعطاء للوطن بلا حدود، فيكرس بإرادته الحرة معادلة تكامل المسؤوليات والواجبات والحقوق. فالوطنية عند العاقل ليست اختيارًا، مشيئة سرمدية، لا يحدها زمن، ولا تقلصها ولا تجففها عوامل الطبيعة، وطبيعة الجغرافيا. فهي أصل في الزمان والمكان يمنحُ، ولا تُمنحْ من أحد أو فئة طارئة على حضارة الشعوب، أو ممن ينسفون عن سابق تصميم وترصد مسارات تقدمها ورقيها.

الوطنية تعني العقلانية بوجوهها واتجاهاتها كافة، دون مساس بالحق والحقوق، وتأصيل الثقافة الوطنية يعني تغذية جذورها لمنح جذع وفروع شجرتها الإنسانية القوة لتمكينها من مواجهة الأعاصير، ومنح أوراقها وزهورها وثمارها النضارة، أما الأشجار الذابلة، المائلة، الجافة، المتشققة غير القادرة على التأقلم مع متغيرات المناخ والبيئة، فيأخذها أصحاب "المحطات الفئوية" اللاوطنية بفؤوسهم إلى ميادين "التكسير" و"التقطيع" ومن ثم إلقاؤها لتحترق بأرخص الأثمان، في نيران ميادين صراعاتهم، هذه التي نسميها باللغة السياسية "الحروب بالنيابة".
الوطنية أن يكون المرء حرًا على حق، وأن ينتصر لأفكاره ومبادئه بأجمل تعبير، وأحسن صور العمل العاكسة لقيمه الأخلاقية، وعقيدته الوطنية، وعندما تتحد عناصر العقول الوطنية تتولد طاقة لا بد منها لاستمرار الحياة بمعانيها السامية، تسمى القرار الوطني المستقل، طاقة تشبه طاقة الشمس اللازمة للحياة الطبيعية على الأرض، بما فيها حياة أبناء آدم.