بعد أن كدنا نفقد الأمل، نحن الفلسطينيين، باليسار الأوروبي، الذي كان النصير المخلص للشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية العادلة، وفي الواقع لسنا نحن فقط حتى المجتمعات الأوروبية ذاتها لم تعد تلمس وجودًا حقيقيًا مؤثرًا لليسار في أوروبا، خصوصًا في مجريات السياسة الدولية، وبعد أن مللنا الانتظار، جاء ما يوحي بأن الحياة عادت تسري في عروق اليسار الفرنسي التي تيبست في السنوات الأخيرة، الحياة تعود لليسار من بوابة القضية الفلسطينية، التي كدنا نعتقد أن أوروبا قد تخلت عنها، مشروع قرار وقعه 40 نائبًا في الجمعية الوطنية الفرنسية، أغلبهم شيوعيون، يتهم إسرائيل بالفصل العنصري الممأسس ضد الفلسطينيين، ويدعو إلى حل للصراع على أساس التعايش ضمن دولتين على حدود 1967.

مشروع القرار مهم في مضمونه وفي توقيته، في المضمون فإن القرار يشير إلى جوهر المشكلة، ويقول إن سياسة الفصل العنصري ضد الفلسطينيين هي سياسة ممأسسة في إسرائيل منذ تأسيسها عام 1948، سياسة تعمل على الحفاظ على أغلبية يهودية متفوقة، وهي سياسة ناجمة عن نفي وجود الفلسطينيين كشعب له حقوق سياسية. ويحدد المشروع  بأن الحل الأمثل للصراع هو في وجود دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل على حدود الرابع من حزيران / يونيو 1967، تعيشان معا بسلام. ويخلص القرار إلى دعوة الحكومة الفرنسية إلى المبادرة فورًا بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، ووقف كل أشكال توريد الأسلحة إلى إسرائيل. فالقرار يذكر بالعصر الذهبي لليسار الفرنسي  والأوروبي، وهو موقف قوي وجذري، كدنا نعتقد أننا لن نسمع مثله مجددًا في أوروبا.

 أما من جهة التوقيت، فإن إعادة الأضواء للقضية الفلسطينية، في وقت ينشغل فيه العالم وأوروبا تحديدًا بالحرب الأوكرانية وتداعياتها السياسية والاقتصادية، هو أمر في غاية الأهمية، يؤكد أن هذا الصراع القديم هو أحد الصراعات التي لا تزال تهدد السلام العالمي. وأهمية التوقيت أيضًا، أن مشروع القرار جاء بعد أن ساد الاعتقاد أن الشعوب الأوروبية لم تعد تكترث بالقضية الفلسطينية، ها هي تعود من باب واسع، من فرنسا، ومع مضمون عميق يذهب إلى الجذر الأصلي للصراع والقضية الفلسطينية.

كما أن الحديث بهذه الجدية والعمق من شأنه أن يعيد النقاش والاهتمام إلى قواعد اليسار، وبالتالي إلى جزء مهم من الشباب الأوروبي، الذين عملت الدعاية الإسرائيلية المكثفة إما على تشويه وعيهم، أو على الأقل جعلهم أصحاب موقف سلبي غير مكترث بالقضية الفلسطينية، ويميل إلى تحميل الضحية مسؤولية ما جرى ويجري لها.

ولطالما تساءل  الشعب الفلسطيني، إذا كانت كل هذه الدول تعلن عن تأييدها لحل الدولتين وتبدي حرصها عليه، فلماذا لا تبادر إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية التي اعترفت بها هيئة الأمم المتحدة عام 2012؟ مشروع القرار المشار إليه يستشعر أهمية التساؤل الفلسطيني،  ويبادر إلى دعوة الحكومة الفرنسية للاعتراف بالدولة الفلسطينية. إن اعتراف الدول، وخاصة الدول الغربية، سيسهم في إقناع إسرائيل بالاعتراف بالدولة الفلسطينية وإقامة علاقات حسن جوار معها، أو على الأقل سوف يشكل ضغطًا على إسرائيل من أجل وقف السياسات والممارسات التي من شأنها تدمير حل الدولتين، مثل سياسة التوسع والاستيطان وتهويد القدس الشرقية المحتلة.

لقد تأخرت دول غرب أوروبا كثيرًا ويكاد حل الدولتين يتلاشى أمام نظر العالم، مبادرة اليسار الفرنسي قد تنعش الأمل، خصوصًا بعد الإدراك أن حل القضية الفلسطينية هو أمر مهم لاستقرار العالم، وأن تطبيع الأمور في الشرق الأوسط بدون وجود دولة فلسطينية مصيره الفشل، ولن يتحقق.

ولعل عودة الروح والحياة لليسار من خلال القضية الفلسطينية، هي أفضل الطرق للتدليل على أصالة هذا اليسار وقدرته على التأثير مجددًا في السياسة الأوروبية والعالمية، ولكن من المهم أن يواصل ويصر هذا اليسار على مواقفه ويمارس الضغط على الحكومات كي تعترف بالدولة الفلسطينية.

 

المصدر: الحياة الجديدة