كُتِبت مئاتُ الكتب، ومئات آلاف الوثائق والمقالات حول الخالد ياسر عرفات زعيم فلسطين المتموضعة أبدًا في مقدمة مَركِب الأمة العربية، وقائد المقاومة الفلسطينية منذ انطلقت ثورةً هادرة تستنهض الأمة وتتقدمها، ولعبت بالسيوف والكفوف كما تعاملت مع الكبار والأذيال عام 1965 وما بعد النكبة عام 1948 وصولاً لاستشهاده المثير والمفجع والمشرّف عام 2004 بيد أشرار الأساطير التوراتية والسطو والهيلمان والعدوان على البشرية.

ياسرعرفات- الذي بعد 20 عامًا من رحيله ما زال ملء السمع والبصر- تجده مع ملايين المواقف والنظرات والابتسامات والغضب والرصاص والسلامات والقبلات والمصافحات والأوراق الممزقة والعيون المقتحمة من أجل فلسطين، امتلكه كل من قابله أو تفاعل معه لذلك لكلّ منّا قطعة منه، وكيف للأيقونة ألا تكون على صدر الجميع.

لك النظر للأقلام الجريحة حين تكتبُ عنه، عدا الصور والمقابلات والأشرطة المرئية وما تجدونه بالكتب من مذكرات رجال حول الرئيس من جهة، وبلسان أصدقائه وملايين من محبيه حتى لو اختلفوا معه. 

وعدد من كارهيه وحاسديه الذين كانوا يطلبون ما لا يمكن فينزعجون، ويفترضون أن وجودهم على قارعة رصيف المقاومة والثورة والكفاح الوطني القومي ناتج عن ياسر عرفات وليس عن انعدام هممهم وسوء طويّتهم فهم أي هؤلاء المرتكسين الأرزقيين المنافقين.

ياسر عرفات حمل السلاح بيدٍ وغصن الزيتون بيد، وكان إلى جانبه محمود درويش وسميح القاسم وأبو سلمى وهارون هاشم رشيد وخالد الحسن وماجد أبو شرار وعبدالوهاب كيالي وبهاء البخاري وأبو عرب وغسان كنفاني وهاني الحسن، وهاني جوهرية، وسُلافة مرسال، ومنير شفيق، ود.محجوب عمر وأحمد عبدالرحمن ونبيل عمرو. من كبار مثقفي وفناني وأعلاميي ومفكري فلسطين والأمة. وعاهد "الختيار" مجايليه من الرواد أمثال أبو جهاد وأبو إياد وسعد صايل وأبو ماهر غنيم وفاروق القدومي وجورج حبش ونايف حواتمه وأبو علي مصطفى وعبد الرحيم ملوح وأبو العباس وبسام أبو شريف. والكثرة المقاتلة في طريق الثورة حتى النصر.

لم يَفُتهُ قط أن يلتفت لعثرات الطريق ففتح الطرقَ الجانبية والالتفافية شمالاً ويمينًا لأنه عندما تكون في مستنقع عربي-عالمي غرقت فيه الأمة فمن اللازم أن تتخذ وضعًا هجوميًا دون أن تفرط بحبال النجاة، وإلا فالابتلاع لك وللقضية في حكم الحاصل.

صاحبُ الكوفية (الحطّة العربية الثورية المقاومة) وشارة النصر التي رفعها قبله "تشرشل" الذي حقق نصر بلاده في الحرب الأوروبية الثانية الموصوفة بالعالمية وإن كان هذا الأخير لا يستحق أن نتشبه به، لأنه أحد المأفونين الذين قدموا فلسطين "هدية" للحركة الصهيونية إلا أن شارة النصر بين يدي ياسر عرفات ظلت ترافقه فترات الصعود والهبوط.

يكتب الأخ أبو وديع عريقات في بدايات البطل الذي لم يفهم أن يتنفس إلا من خلال فلسطين وعلى لسانه: "يقول جون فوستر دالاس: لسوء حظ هذا الشعب أنه جاء تحت أقدام الفيلة، الكبار يموتون والصغار ينسون. ويردّ عليه الشهيد القائد الرمز ياسر عرفات في أول معسكر للأشبال في البقعة بالأردن: أنا بتكلم لعِظام "جون فوستر دالاس" بقولها، تعال شوف مَن الذين يقاتلون دفاعاً عن فلسطين، هؤلاء أشبال فلسطين، أطفال فلسطين ما لاينسون".

وكتب بنفسه بالقلم الأحمر أواخر حياته المضطربة والحافلة والمهددة والمتذبذبة والجياشة والعميقة "يريدونني طريدًا أو قتيلاً أوأسيرا وأنا أقول لهم شهيدًا شهيدًا شهيدًا"، ومكررًا دعوته للأمة العربية والإسلامية التي آمن بها وجعل من ذاته والمقاومة الفلسطينية مقدّمة القافلة لخيولها وسيوفها المصقولة "ع القدس رايحين شهداء بالملايين".

أبو عمار الذي زار ودار وتحدث وتكلم مع كل قادة العالم الثائر أو أغلبهم ولد في قلب المعركة فلم يكن ليخرج من طموحه في فلسطين الديمقراطية لكل المؤمنين إلا على صفير الصواريخ فوق رؤوس الفلسطينيين، ثم فوق رأسه عندما حوصر ثلاثًا في بيروت ثم في طرابلس ثم في رام الله.

ظل النمرُ الفلسطيني الرابض أو الليث، مقدامًا يفهم معنى التقدم والتراجع، ويفهم المعادلات وكل الخيوط بين أصابعة في مناعة القوة حين ترتبط بفكرة التحرير لاسيما مع شعب جعل من الصبر والرباط والثبات والصمود مدرسته منذ قرر الرسول صلى الله عليه وسلم وبأمر من الله سبحانه وتعالى أن ها هنا في الشام وفي فلسطين تكمن أمة الجهاد والنضال والرباط.

قال صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتيهم أمر الله. وهم كذلك"، قالوا: يا رسول الله وأين هم؟ قال: "ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس".

عينا أبوعمار لم تغمض ليلةً عن فلسطين سواء في الطائرة التي كانت تنقله من بلد إلى آخر، أو حين كان يحمل بندقيته في وجه المؤامرة الكبرى أو في وجه المحتل المختل بفهمه "التناخي" السقيم وظنّه أنه يقود العالم بصفته النقية حيث لا تجد فرقًا في معادلة النقاء العرقي أو الديني أو الفكراني (الإيديولوجي) بين جميع الأفكار المتطرفة أكانت داعشية أم من (جيش الرب) المسيحية، أم نازية أم فاشية أم هندوسية متطرفة، أم يمينية "تناخية- توراتية" أم صهيونية فكلها من ذات الصحن القمعي تأكل.

ياسر عرفات حين تكتب عنه تخلصُ الأحبارُ، وتفترض أنك تجلس طويلاً أمام شاشة الحاسوب، أو أمام الأوراق الدامعة حيث تم التخلي عنها في زمن الذكاء الصناعي وثورة المرئيات الفاسدة والمفسدة للعقل والروح.

ياسر عرفات وأنت تكتبه أو حين تتأمله مبتسمًا أو غاضبًا يثور في نفسك السؤال الكبير ماذا يعني؟ وماذا يريد؟ وهو هنا يكون قد تجهّز ليُرسلَ من الرسائل العشرات. فلا تظن أنه للحظة كان يقصدك أنت.

أولئك الذين كتبوا ضده بافتراءات وأرجاس خارج معنى النقد الواجب، هم النفرُ القاعدُ طوال عمره على قارعة طريق المقاومة والنضال التي قادها الختيار ما كانوا شيئًا في حياته، ولم يدخلوا نفسًا في منخري الحصان العربي الأصيل. وظنوا أنهم في ظل التقانة الحديثة وانتشار الكلام الذي كثيره غثُ وأقله سمين قد يمررون في كتبهم أو لقاءاتهم المرئية على الإنترنت ما لم يستطيعوا أن يقولوه في وجه الرجل الذي لم يكن يومًا قديسًا، وما كان نبيًا محتالًا، ولا "مرشدًا" لهذا النظام ولا لتلك الجماعة التي تدعي العصمة، والدين الصحيح دون أمة المسلمين.

رفض ياسر عرفات بكل ما أوتي من قوة فكرة القسر والإجبار عبر التقديس وهي فكرة ينافس فيها المقدس كل الآخرين فلا نجاح بالقطع قد يتلمس أي من زوايا وجهة نظرك حين تكون أمام (المقدس) كمرشد أو حزب إلهي أو قائد بيد متوضئة يفترض أن الشمس تشرق من عينيه، بل اتخذ من عقيدة حب فلسطين وعقيدة الحوار الصعب والمضنى مدرسة له، فمهما خالفوه وعاتبوه وقاتلوه بالحِراب المسمومة كان يميل عليهم برداء الاحتضان فيشملهم أجمعين.

ياسر عرفات مهما كتبت عنه أنت أو غيرك شرحًا أو تبيانًا أو دفاعًا، ومهما قلت عنه سياسيًا ووطنيًا، هو أب كبير بصيغة قائد، وهو إنسان ضعيف بجلد هزبر أو نمر عربي فلسطيني أبيض لن تجد من مثله إلا القلّة.

وفي خضم العدوان  الفاشي على قطاع غزة والضفة الغربية تساءل الكثيرون ماذا كان "الختيار" ليفعل في ظل هذا المستنقع الإرهابي الصهيوني؟ وكيف كان ليتصرف؟ ومنهم قادة ومفكرون وكتّاب عظماء كبار وإعلاميون مرموقون قرأنا لهم، لم يتخلوا عن رداء الوفاء للرجل فذكروه في كل مقالة أو نفس يتنفسونه نعم، هكذا كان أبو عمار الذي استشهد ليصنع من روحه مساحة اقتسام أبدية يتناقل مقاومتها وثوريتها ووطنيتها وعروبيتها وإسلاميتها وحضاريتها وانفتاحها كل مَن على هذا الدرب الشائك والصعب والمتفجر سار أو فكر أن يسير.

خاض المخاضة وشهد المشاهد بل كان هو الصانع لها، وهو الذي رفض التنحي جانبًا، ففلسطين أبدًا في الوسط، فقاطع أفكاره كل أنظمة الطغيان والاستبداد بالعالم العربي التي زال قادتها مرفوقين بآلاف اللعنات، لكنهم عند ياسر عرفات توقفوا لا يعلمون ما يقولون، فإن أحسنوا فهم لم يأتوا بجديد، وإن أساؤوا له يقال لهم أين كنتم؟ ومَن أنتم؟

ياسر عرفات رجل الجاذبية الطاغية (كاريزما) امتلك جاذبية الفدائي المقاوم الزاهد العابد المثابر كما امتلك جرأة وشجاعة وندّية رجل السلام، فحين جنح لها كان يعرض أمام الجميع مبررات إيمانه، ويعمل في الطرق المتعرجة ليفتح مسالك جديدة، ولم يتزحزح لحظة عن فلسطين التي سعى إليها قطعة قطعة إلى أن تتكامل في نهاية المطاف واحدة موحدة بهيّة طليّة نقية.