لم أستطع إخفاء انفعالي ودموعي لحظة اللقاء الأول في زعترة بمحافظة بيت لحم من أرض الوطن فلسطين، لكني حرصت على ألا يراني، لاعتقادي أنه سيتأثر أكثر، إذا أدرك أن حزني في تلك اللحظة كان نتيجة الفارق في ذاكرتي بين صورتين: صورة صلاح التعمري الفدائي، بهامته وقامته، وصلاح التعمري المضطر لاستخدام عكاز لضبط خطواته الثقيلة، فالتعمري ما كان يحب الشعور بعطف من أحد، كيف وهو نبعه وجدوله الدافق، وأعتقد أن كل مناضل وفدائي أو لاجئ فلسطيني في المخيمات في لبنان أو مواطن لبناني أو أجنبي كان قد قابل صلاح التعمري قد تمنى لو سمح له القدر والزمن بنصب خيمة إلى جانب هذا النبع الإنساني العظيم، لينعم على قلبه وعقله من أعذب الأفكار والأعمال، والطموحات والرؤى والتجارب الغنية بالخلاصات العلمية... لكن الحلقة من برنامج (حكاية صورة) التي أردت تسجيلها معه كانت لتوثيق فصل من قاموس المناضل  الفدائي القائد الفلسطيني، الذي خاض معركة الكرامة عام 1968، ومعارك الحملة الإسرائيلية على لبنان صيف العام 1982، وقاد قصة صمود آلاف الأسرى الفلسطينيين واللبنانيين وبطولاتهم في معسكر أنصار، وصولا إلى مقاومة الاستيطان على أرض وطنه فلسطين، وصورة خيمته التي دق أوتادها على جبل أبو غنيم وصموده وصبره، وتمسكه بالبقاء على رأس الجبل رغم هبوط الآخرين، وليحكي لنا عن المناضل الفدائي الذي اقتضت البرتوكولات أن يرتدي البدلة الرسمية عندما كان محافظا وحاميا لتوأم القدس في القداسة (بيت لحم) وعن صورة المناضل الفدائي ذاته الذي تنبعث من محياه آيات عنفوان  وكبرياء وفخر وعزيمة وإرادة صلبة وآمال، صورة طوى الزمن بين لحظتها ولحظتنا حوالي خمسين عاما، حيث دقائق قبل التسجيل، يشير لنا ويحدثنا عن مشروع تخضير المنطقة بأشجار تتحمل الجفاف ومتغيرات الطقس، لإبقاء مظاهر الحياة على كل بقعة من أرض الوطن، وكأنه بذلك كان يلخص فلسفته كفدائي في ميادين النضال الذي ابتدأه من أجل الانتصار لحياة وكرامة وحرية الشعب الذي ينتمي إليه، وتحرير أرض وطنه الذي يعتقد أن الانتماء والالتزام  والإخلاص والصدق في العمل الدؤوب بروح وعقلية المناضل الحكيم والفدائي الشجاع سيبقيه أخضر رغم حرائق الغزاة الصهاينة، وتجفيفهم مصادر حياة الشعب الفلسطيني، ففلسطين عند صلاح واحة للسلام كانت وستبقى وستكون أجمل بالحرية والاستقلال!. 

صلاح التعمري الذي ولد قبل ثمانين عاما بين أحضان عرب التعامرة في بيت لحم، كان يحمل صفات العربي الكريم، الأصيل، الخلوق، الوفي، الشجاع، المثقف، ذا اللسان الناطق بالحكمة والمنطق، حتى بات محترفا في إقناع الآخرين، فكان بمثابة رسول فلسطين الدائم للناطقين بغير لغة الضاد. 

كان لي شرف المبيت ليلة واحدة كضيف في بيت صلاح التعمري (المناضل) وزوجه - رحمهما الله - (الملكة دينا بنت عبد الحميد الزوجة الأولى للملك الحسين بن طلال وابنة عمه ووالدة الأميرة عالية بنت الحسين) في ضواحي مدينة صيدا في لبنان في الثمانينيات، فدونت في ذاكرتي الجواب على سؤال كيف يصير المناضل ملكا، وكيف تصبح الملكة مناضلة، يومها خرجت بخلاصة ثابتة في الحقيقة وهي أن الحب في قلب صلاح التعمري الذي اتسع لفلسطين وشعبها، والأشقاء حولها، ولأصدقاء فلسطين الأحرار من كل الأعراق قد دفع ملكة لأن تحيا في جنته ولو في بيت صغير قديم على مدخل مخيم في عمان كان يسكنه المناضل الفدائي التعمري: أسعد سليمان حسن عبد القادر سليمان الخطيب، اسمه السداسي الحقيقي الذي في كل سدس منه خصلة طيبة وسمة من شخصية صلاح التعمري. 

ما زلت أذكر إصراره على إيجاد صورة لمسجد قرية الكرامة الذي دمرته قوات جيش الاحتلال الإسرائيلي الغازية في 21 آذار من عام 1968 في معركة الكرامة الشهيرة، لتضمينها في كتيب، رغم وجود صور أخرى عن نتائج المعركة كالدبابات الإسرائيلية المدمرة، لكني كثفت بحثي حينها حتى وجدت الصورة في ارشيف صحيفة النهار اللبنانية، فأدركت حينها أن القائد صلاح معني بكشف همجية العدو، وضربه لكل الأعراف والمواثيق والقوانين والقيم الإنسانية في العالم، بالتوازي مع إظهار تكريس شجاعة الفدائي وإيمانه بالمبادئ والأهداف وتضحياته من أجل تحقيقها.. فالحرية والتحرر الاستقلال غاية المناضلين الأسمى، لذا لا عجب أن تكون آخر كلماته قبل وفاته: "يا أخوتي انا قد سقطت فأكملوا وتحملوا وتحملوا". 

 

المصدر: الحياة الجديدة