الأزمة الأوكرانية وأفضلية الحل السياسي/بقلم: باسم برهوم

منذ عدة أسابيع والعالم يعيش على أعصابه على وقع الأزمة التي تدور حول أوكرانيا، والغالبية الصامتة تتمنى أن يتم إيجاد حل سياسي للأزمة لأن البديل سيكون كارثة. خطورة ما يجري هناك أنه يشبه إلى حد كبير تلك الأزمات التي سبقت اندلاع الحربين العالميتين الأولى والثانية في القرن العشرين وكانت سبباً مباشرًا لاندلاعهما، وخصوصًا الحرب العالمية الثانية، عندما حاولت ألمانيا المهزومة بالحرب الأولى أن تستعيد المناطق التي جردها منها المنتصرون.
جذور الأزمة الأوكرانية الراهنة تعود إلى مطلع تسعينيات القرن العشرين، وبالتحديد إلى الضمانات الشفوية التي قدمها الزعماء الغربيون إلى آخر زعيم للاتحاد السوفييتي ميخائيل غورباتشوف، وهي ضمانات تقضي بعدم تمدد حلف الأطلسي شرقًا، مقابل توحيد ألمانيا وخروج دول وسط وشرق أوروبا من حلف وارسو، فقد قال جيمس بيكر وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية في عهد الرئيس جورج بوش الأب جملته الشهيرة في حينه: "ولا بوصة شرقًا". هذه الجملة رددها نفسها أو بالمضمون ذاته المستشار الألماني في حينه هلموت كول ورئيس وزراء بريطانيا مارغريت تاتشر والرئيس الفرنسي ميتران.
المشكلة في حينه أن جملة جيمس بيكر "ولا بوصة شرقًا" لم توثق كتابة، الأمر الذي سمح للولايات المتحدة التفكير ومن ثم التنفيذ في توسيع حلف الأطلسي بضم دول وسط أوروبا للحلف مثل بولندا ورومانيا والمجر والتشيك وسلوفاكيا. بالرغم من معارضة دول أوروبا الغربية لمثل هذه الخطوة في حينه، فإن حلف الأطلسي واصل تمدده شرقًا حتى أصبح يقلق روسيا خصوصًا أن هذه الأخيرة قد نهضت من الكبوة التي أصابتها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي، روسيا بوتين تشعر اليوم أنها استعادت عافيتها لتعود وتطالب باحترام الضمانات "ولا بوصة شرقًا" خصوصًا أن حلف الأطلسي قد وصل لحدود روسيا مباشرة ويكاد يطوقها من الغرب والجنوب الغربي.
في الرد الأميركي الذي أرسله بايدن لبوتين قبل أيام لا يتضمن وعدًا مكتوبًا بعدم ضم أوكرانيا إلى حلف الأطلسي، وبوتين يصر على أن الضمانات التي أخذها غورباتشوف شفهيًا أن يأخذها مكتوبة، لذلك هو يطالب بسحب قوات وأسلحة حلف الأطلسي من بلغاريا ورومانيا أيضًا. فنحن اليوم أمام مأزق سياسي وإستراتيجي كبير للطرفين، فلا بوتين بإمكانه التراجع ولا بايدن يمكنه أن يعطي ضمانات مكتوبة لأنه بذلك كمن يحكم على حلف الأطلسي بالفناء.
الأزمة الأوكرانية أزمة خطيرة جدًا وهي بحاجة للحكمة والتروي، فالتاريخ علمنا أنه مع هكذا أزمات يمكن أن تندلع الحروب الكبرى المدمرة للجميع. من هنا يتطلب الأمر حلولاً سياسية خلاقة تحفظ السلم العالمي، حلولاً تقلل من مخاوف روسيا عبر تقديم الضمانات الضرورية لصون أمنها القومي مع الحفاظ على رغبات الشعوب بالاستقلال والسيادة.
وبين بوتن وبايدن تأتي أوروبا الحائرة  في الوسط، فهي لا تريد أن تنجر بأي شكل من الأشكال  لهذا الصراع المتفاقم ولا لأي حرب أخرى مدمرة، صحيح أن الدول الأوروبية ليست كلها على نفس الموقف، ولكن لا أحد عاقلاً في هذه القارة العجوز، التي ذاقت هول الحروب العالمية مرتين، يمكن أن يرغب أن تتحول أزمة أوكرانيا إلى حرب، كما لا أعتقد أن هذا هو هدف بوتين كما لا يريده بايدن أيضًا، لأن أي حرب ستكون مكلفة جدًا للجميع. فالحل هو في تقديم ضمانات متبادلة الأولى من الغرب بعدم ضم أوكرانيا وبيلاروسيا إلى حلف الأطلسي مقابل ضمانات روسية بعدم اجتياح أوكرانيا، وذلك كخطوة أولى تتبعها خطوات تعيد النظر بالمضمون الحالي للأمن الأوروبي الذي ثبت كم هو هش وقابل للانهيار في أية لحظة، ومن ثم يجري تحديث المؤسسات الأوروبية انطلاقًا من ذلك، لا بهدف منع  الحروب وحسب وإنما من أجل تدعيم سبل التعاون والشركة بين دولها.
أما الخطوة الأبعد هي في إعادة النظر بحلف الأطلسي ذاته، والذي هو أحد مخلفات الحرب الباردة، لأن بقاء الحلف بالمنطق الموجود به الآن سيؤدي إلى التفكير بإنشاء حلف روسي صيني مع دول أخرى  يقابله.. هل نحن على أبوب حرب باردة أخرى؟ والسؤال الأدق هل نحن -وأقصد البشرية- بحاجة لحرب باردة أو غير باردة أخرى؟ في أوروبا مؤسستان هما الاتحاد الأوروبي ومجلس أوروبا، الاتحاد لا يضم إلا  الدول الأوروبية الأعضاء في الاتحاد أما المجلس فعضويته مفتوحة لجميع الدول، وهو بهذا المعنى المؤسسة الأفضل لمفهوم الأمن الأوروبي.
ونحن في الشرق الأوسط لسنا بعيدين لا جغرافيا ولا سياسيًا ولا عسكريًا عن الأزمة الأوكرانية. فهذه الأزمة تجري على الحدود الشمالية للشرق الأوسط، وإن المنطقة لن تكون في مأمن إذا نشبت الحرب هناك، فتركيا لن تكون بعيدة عن الصراع بل هي مرشحة لتكون جزءًا منه فور حصوله، كما أن إيران ستصبح قطعة الشطرنج القادمة لأي صراع بين روسيا والولايات المتحدة إذا ما حسم أمر أوكرانيا بهذا الاتجاه أو ذاك. وفي الوسط تأتي سوريا وإسرائيل، في الأولى هناك الوجود العسكري الروسي الذي قد يجد نفسه في مواجهة مع إسرائيل في أي لحظة يتوسع فيها الصراع.
لذلك يحب أن نفضل الحل السياسي للأزمة الأوكرانية لأن تداعياتها العسكرية أمر مرعب  للجميع.
 

المصدر: الحياة الجديدة