يمكننا قراءة مضامين وأبعاد لقاء رئيس دولة فلسطين السيد محمود عباس ورئيس الاتحاد الروسي فلاديمير بوتين بمنظار الرؤية الاستراتيجية الجديدة التي طرحها سيادة الرئيس محمود عباس في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة الدورة 76 في 24 أيلول / سبتمبر، عندما قال السيد الرئيس أبو مازن إن :" الشعب الفلسطيني لَنْ يُسلِّمَ بواقعِ الاحتلالِ وممارساتِه غيرِ الشرعية، وسيواصلُ نضالَهُ للوصولِ إلى حقوقهِ في تقريرِ المصير، والبدائلُ أمامَ شعبِنا مفتوحة، بما فيها خيارُ العودةِ لحلٍ يستندُ إلى قرارِ التقسيمِ رقم 181 للعام 1947، الذي يُعطي دولة فلسطين 44 % من الأرض، وهي ضعفُ مساحةِ الأرضِ القائمةِ على حدودِ العام 1967، ونُذكرُ الجميعَ أنَّ إسرائيلَ كانتْ قد استولت بالقوةِ العسكريةِ على نصفِ الأرضِ المخصصةِ للدولةِ الفلسطينيةِ في العام 1948، وهو حلٌ أيضاً مُتوافِقٌ مع الشرعيةِ الدولية.
وفي حالِ مواصلةِ سلطاتِ الاحتلالِ الإسرائيليِ تكريسَ واقعِ الدولةِ العنصريةِ الواحدة، كما يَجري اليوم، فإنَّ شعبَنا الفلسطيني، والعالمَ بأسرِه، لنْ يقبلَ بذلك، وسَتفرِضُ المعطياتُ والتطوراتُ على الأرضِ الحقوقَ السياسيةَ الكاملةَ والمتساويةَ للجميع على أرض فلسطين التاريخية، في دولةٍ واحدة. وفي كلِ الأحوال، على إسرائيل أن تختار.
لقد التزمت قيادة الشعبِ الفلسطيني بقراراتِ الشرعيةِ الدولية، وتحملِت مع الشعب الألمِ في انتظارِ الأمل، كما قال الرئيس في خطابه، وطرح سيادة الرئيس أبو مازن المبادرات الخلاقة، والنتيجة أن السياساتِ الدوليةِ تجاهَ إسرائيل كانت غير كافية لإلزامها بالحل الذي إجمعت عليه الشرعية الدولية، ما أتاح السبل أمام الإدارات الأميركية المتعاقبة للاستفراد بالعملية السياسية، حتى فرضت رؤيتها الخاصة الناكرة لحقوق الشعب الفلسطيني التاريخية والسياسية، واحتكار الحل، الذي فاحت منه رائحة مشروع استعماري جديد، تجسدت ملامحه في فترة حكم دونالد ترامب الذي وجه ضربة شبه قاضية للمجتمع الدولي، وكاد يزيحه نهائيا عن مشهد المشاركة في رعاية العملية السياسية بناء على قرارات الشرعية الدولية .
لم يقطع سيادة الرئيس أبو مازن في خطابه التاريخي مع إرادة المجتمع الدولي وقراراته، وزيارته لموسكو في هذا الوقت -كما نقدر- تأتي في سياق حث الدول العظمى والصديقة تاريخيًا للشعب الفلسطيني ومنها روسيا الاتحادية على العمل لاستعادة إرادة المجتمع الدولي التي تحاول حكومة بينيت إبقاءها رهينة كما فعل سلفه بنيامين نتنياهو خلال حوالي خمسة عشر عامًا الماضية، فالمنطقة تبدو في هذه اللحظات في درجة غليان عالية بعد أحداث شديدة السخونة من التماس المباشر بين الخصوم والأضداد، وقد تشهد انفجارا بين لحظة وأخرى لا يمكن تطويق تداعياته التي قد تتجاوز حدود الإقليم، وكل هذه الحالة لأن منظومة الاحتلال الاستعمارية العنصرية المسماة (إسرائيل ) " تركت بدون مساءلة أو محاسبة، وتتصرف منذ إنشائها كدولة فوق القانون " ما يهدد بفقدان الأمل بسياسات المجتمع الدولي وهيئات الأمم المتحدة وبمدى جديتها لحل القضية الفلسطينية.. ورغم استقواء منظومة الاحتلال على العالم إلا أن الرئيس أبو مازن أكد رفض الشعب الفلسطيني لهذا الظلم التاريخي الذي إذا استمر فإنه لن يجلب الأمن والسلام لشعوب المنطقة وما حولها !.
نتخيل السيد الرئيس محمود عباس وهو يضع رئيس روسيا الاتحادية الصديقة في صورة اللحظة الفارقة والخط الفاصل بين السلام، واستمرار جرائم الحرب الإسرائيلية على رأسها ( الاستيطان ) وكذلك العدوان والقتل والتدمير والتهجير وجرائم التطهير العرقي والتمييز العنصري، ونعتقد أنه سيصارح الرئيس بوتين بهذه الحقيقة التي كان قد قالها على مرأى ومسمع قادة وممثلي دول العالم :" لَقدْ وصلْنا إلى مواجهةٍ معَ الحقيقةِ مع سلطةِ الاحتلال، وَيبدو أننا على مفترقِ طرق، أقولُ إنّهُ قَدْ طفحَ الكيل، فالوضعُ أصبحَ لا يُحتمل، وغيرَ قابلٍ للاستمرار، ولَمْ يَعدْ شعبُنا يحتملُ المزيد..لقدْ ناضلتُ طوالَ حياتي من أجلِ صنعِ السلام، واتْبعتُ الطرقَ السلميةَ والقانونيةَ والدبلوماسيةَ والعملَ في المحافلِ الدولية. مددْنا أيدينا مرارًا للسلامِ، ولا نجدْ شريكًا في إسرائيل يؤمنُ ويقبلُ بحلِ الدولتين " .
إن حرص سيادة الرئيس محمود عباس على وحدة الشعب الفلسطيني وأرضه وقيادته وسلطته والممثل الشرعي والوحيد منظمة التحرير الفلسطينية مرتكز على إيمانه بأن الوحدة الوطنية الفلسطينية هي الشرعية الحقيقية التي نعتد بها في المواجهة مع المشروع الصهيوني الاستعماري، وأن قوة الشعب الفلسطيني تكمن في رؤية وطنية واحدة، لدولة فلسطينية إذا أخذ المجتمع الدولي على عاتقه إلزام إسرائيل بحل الدولتين، وتكمن في رؤية منسجمة موحدة للدولة الفلسطينية الواحدة التي اعتبرها سيادة الرئيس أحد خياراتنا المستقبلية بعد خيار حل الدولتين على حدود الرابع من حزيران من العام 1967، وخيار تنفيذ قرار 181 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1947.
المرحلة خطيرة جدًا، وتتطلب وعيًا فلسطينيًا للمصالح العليا للشعب الفلسطيني، ونعيش لحظات تاريخية قد لا تتكرر، وعلينا ألا ننتظر انتصار العالم لإرادته بخصوص قضيتنا، إلا إذا أقنعنا المجتمع الدولي بانتصارنا الذاتي لقضيتنا، وقدمنا أنفسنا للعالم بأحسن صور الوحدة الوطنية، ففلسطين لن تكون إلا برؤية واحدة لدولة واحدة، وللدولة الواحدة .
المصدر: الحياة الجديدة
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها