قبل أكثر من أسبوعين مرت الذكرى 104 لوعد بلفور المشؤوم، وهو الوعد الذي جاء نتاج مخطط استعماري استراتيجي لتجزئة الأمة العربية والهيمنة على المنطقة لمرحلة تاريخية طويلة. أحد شروط نجاح هذا المخطط أن تصبح فلسطين في قبضة الصهيونية العالمية، وتتحول إلى وطن قومي "للشعب اليهودي"، دولة يهودية. ونعلم أن بريطانيا هي العقل وهي الضامن.
كما أن بريطانيا لم تكن بعيدة عن تأسيس جماعة الإخوان المسلمين في مصر في نهاية عشرينيات القرن العشرين، وبقيت هذه الجماعة تتمتع بقاعدة صلبة محمية في لندن. وحتى حماس التي تأسست في العام 1988 كانت وحتى الاعلان الأخير تتمتع بموقع إعلامي وسياسي ومالي مهم في بريطانيا، وهذه الأخيرة لم تسارع إلى اعتبار حماس "منظمة إرهابية " عندما قامت بهذه الخطوة الولايات المتحدة الأميركية عام 2001 وعندما اتخذ الاتحاد الأوروبي قرارا بهذا المعنى عام 2003 واكتفت بريطانيا بإعلان الجناح العسكري لحماس ( كتائب القسام ) " كياناً إرهابيًا"، لماذا اليوم تقوم بريطانيا بهذا الاعلان؟
قبل توقع الأسباب وتحليلها، فإن هناك ضرورة للعرب عن إدانة هذا القرار الذي أعاد التذكير بكل هذا التاريخ البريطاني الاستعماري المتبني للمشروع الصهيوني، قد يختلف المرء مع حماس لاسباب فكرية وسياسية ولكن لا يمكن القبول أن يوصف جسم سياسي فلسطيني بالإرهاب.
أما بخصوص الاسباب، فالقرار بالأساس ينسجم مع الموقف البريطاني التاريخي، فبريطانيا هي أم الولد كما يقال، أم الولد الصهيوني، فالمسألة ليست مجرد تبني للرواية الصهيونية- الإسرائيلية عن طريق تضليل إعلامي، بل هي تعتبر نفسها شريك في صياغة هذه الرواية وتسويقها وتنفيذها على حساب الشعب الفلسطيني والأمة العربية. والدليل على ذلك ان بريطانيا، وبدل أن تعتذر للشعب الفلسطيني عن وعد بلفور وما ألحقه من أذى وكوارث بالفلسطينيين، هي احتفلت بالذكرى المئوية لهذا الوعد في عام 2017، فقرار إعلان حماس يدخل في هذا السياق التاريخي.
أما عن السبب الراهن فيعود أولاً، إلى وزيرة الداخلية البريطانية بريتي باتيل التي تعتبرها الصحافة البريطانية بأنها يد إسرائيل في الحكومة البريطاتية، والداعمة إلى درجة التماهي، للصهيونية العالمية. فهذه الوزيرة، ذات الأصول الهندية، هي نائب رئيس "جمعية أصدقاء إسرائيل" في حزب المحافظين. كما تربط باتيل علاقات خاصة بالدولة العبرية فقد سبق وأن طلب منها الاستقالة من وزارة التنمية والتعاون الدولي، في عهد رئيسة الوزراء تريزا ماي، لأنها عقدت سلسلة اجتماعات مع مسؤولين ومؤسسات إسرائيلية، من بينهم نتنياهو لم تكن مكلفة رسمياً بعقدها، وقامت بها اثناء إجازتها الخاصة ولم يتواجد معها في هذه الاجتماعات اي دبلوماسي بريطاني.
وجود وزراء صهاينة حتى لو لم يكونوا يهودًا ظاهرة تاريخية في الحكومات البريطاتية منذ جورج لويد وارثر بلفور خلال الحرب العالمية الأولى وكانا من وراء صدور الوعد للصهيونية بإنشاء وطن قومي يهودي في فلسطين فقد كانت الحركة الصهيونية، واليوم إسرائيل تختار الوقت المناسب لتقطف ثمار وجود مثل هؤلاء المسؤولين، والآن يتكرر الامر ذاته مع بريتي باتيل، خصوصاً أن لديها بيئة يمينية متينة في الحكومة تسهل عليها اتخاذ مثل هذا القرار المدان.
أما السبب الثاني فقد يكون بشأن علاقة حماس مع ايران، واعتبار القرار رسالة لحماس بأنها تحت المجهر فيما يتعلق بالعلاقات العسكرية والمالية مع إيران. وهنا قد تكون بريطانيا استمدت التشجيع لاتخاذ هذا القرار نتيجة الخلافات داخل جماعة الإخوان بين تيار لندن بقيادة ابراهيم منير مساعد المرشد العام، والقائم بأعمال، وتياراسطنبول بقيادة محمود حسين.
كما يجب أن لا نستبعد من الاسباب المفاوضات بين حماس وإسرائيل حول هدنة طويلة الأجل، وأن القرار سيمثل ضغطا إضافيًا على حماس كي تسارع للتوصل إلى مثل هذه الهدنة، مع ترك يد إسرائيل طليقة في القدس والضفة في التهويد والاستيطان، بمعنى أن تؤدي الهدنة طويلة الأجل إلى واقع يتم خلاله فصل قطاع غزة عن الضفة.
مهما يكن الأمر فهذا القرار مدان ولا يأخذ بالاعتبار أن هناك احتلالاً إسرائيليًا للأرض الفلسطينية، وأن مقاومة الاحتلال حق مشروع وينسجم مع ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي. وبهذا المعنى فإن القرار البريطاني هو التماهي مع الاحتلال الاسرائيلي وبالتالي هو انتهاك للقانون الدولي.
اليوم هناك معضلة يواجهها النضال الوطني الفلسطيني ضد الاحتلال، مع اعتبار حماس" تنظيماً إرهابياً، من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وأستراليا ونيوزيلاندا وغيرها من الدول فهذا الواقع سيمثل عقبة جدية أمام أي جهد دولي للعودة الى عملية سلام حقيقية، او أي مسعى لانهاء حصار غزة. فالسؤال ما هو المخرج؟
على حماس أن تفعل ما لم تفعله منذ أن سيطرت على قطاع غزة بالقوة عام 2007 ان تعود إلى مسار الوحدة وتوحيد الوطن الفلسطيني، فمواجهة المخاطر والتحديات لا يتم إلا عبر وحدة الشعب الفلسطيني، أي طرف يعتقد بأنه يمكن وحده أن يهزم الاحتلال، ويهزم المجتمع الدولي المتواطئ مع دولة الاحتلال فهو وأهم. لقد استغلت إسرائيل هذا الانقسام وهي تحاول تكريس انفصال غزة كجزء من استراتيجية لمنع إقامة دولة فلسطينية، كخطوة لتصفية القضية الفلسطينية برمتها.
والمشكلة في كل ذلك أن العالم منشغل في أزمات متفجرة في أكثر من منطقة، كما يشكل الانقسام مبررًا لتهرب المجتمع الدولي من تحمل مسؤوليته والعمل من أجل تنفيذ حل الدولتين.
المصدر: الحياة الجديدة
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها