كتبت بالأمس عن تفعيل إعلان الاستقلال في هذه الزاوية، واليوم أعود للرد على أحد إعلاميي حركة حماس، المدعو مصطفى الصواف، الذي كتب "في ذكرى وثيقة العار"، وتجرد من كل إحساس بالروح الوطنية، لأنها أصلاً ليست موجودة لديه، رغم أنه حاول تعليق نفاقه على شماعة الوطنية، وادعى "الغيرة" عليها، وهي براء منه ومن زمرته الانقلابية المارقة. وكتب الصواف الإخواني، الذي لا يعترف بالوطن والوطنية لا هو ولا كل التنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين "عن أي استقلال تتحدثون، خدعتم شعبكم يوم أن أعلنتم عام 88 عن وثيقة استقلال زائف، وهي لم تكن وثيقة استقلال، بل كانت وثيقة إذعان، وتفريط واستسلام، وثيقة اعتراف بالكيان الصهيوني.." وقبل دحض مواقف الإعلامي الصواف، بودي أن أستحضر تصريحا للمرشد الأسبق لجماعة الإخوان المسلمين، محمد مهدي عاكف، عندما قال إن "مسلما في أندونيسيا أو ماليزيا أهم من مصر.."، وبالتالي محاولة ركوب البعد الوطني بعيد عنك، وعن أمثالك.
من المؤكد أن وثيقة الاستقلال التي تبنتها دورة المجلس الوطني الفلسطيني التاسعة عشرة في الجزائر الشقيقة في الخامس عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر 1988، كانت مستوحاة من روح الثورة في الثورة، من الانتفاضة الشعبية الكبرى 1987 / 1993، تلك الانتفاضة المجيدة، التي أخرجت رقبة الثورة المعاصرة والقضية الوطنية برمتها من مقصلة التصفية، ليس هذا فحسب، إنما أعادت الاعتبار للقضية الوطنية، وقزمت كل الأعداء الذين سّنوا سيوفهم وخناجرهم ودسوا سمومهم الخبيثة في الجسد الفلسطيني، وأجبرت القاصي والداني على الانحناء لراية وإرادة الشعب العربي الفلسطيني، وفرضت عليهم أجندة الثورة والشعب.
الوثيقة الفريدة بما حملته من رؤى برنامجية، وأبعاد قانونية دستورية، كانت بمثابة لوحة فنية، ونص أدبي غاية في الجمال والرقي الإبداعي. لا سيما أن من صاغها، هو رمز الثقافة الوطنية، الشاعر الفلسطيني والعربي والأممي الكبير محمود درويش. فجاءت تفيض غنى في الإبداع، وحملت في طياتها ومفرداتها، ومفاهيمها وتجلياتها السياسية والفكرية قيما عالية كشفت عن عمق ثقافة وحضارة الشعب العربي الفلسطيني، وعن روحه الوطنية والقومية الفذة، وشحنت الشعب بالأمل.
كما أن الوثيقة القطعة النثرية الإبداعية استشرفت المستقبل بروح عالية من الأمل، واستلهمت روح العطاء والفداء الوطني فتسامت مع طموحات الشعب العربي الفلسطيني، وصعدت مع مجد اللحظة لتعلن عن الاستقلال الافتراضي للشعب المنكوب على مدار أربعة عقود آنذاك، وسعت الوثيقة والمجلس الذي أقرها لفرض الرؤية الفلسطينية على طاولة العالم، وانتزاع الاستقلال على أرض الدولة الفلسطينية المحتلة في الخامس من حزيران/ يونيو 1967 وضمان عودة اللاجئين لديارهم على أساس القرار الدولي 194.
ووضعت الوثيقة النواظم القانونية لتطور المجتمع من حرية الرأي والتعبير، وترسيخ الديمقراطية كأساس لقبول التعددية السياسية والفكرية والاجتماعية، وأكدت على المساواة الكاملة بين المرأة، حارسة نيران الثورة والرجل، ولم تترك الوثيقة شاردة أو واردة إلا عبرت عنها بجمل أنيقة وواضحة وضوح الشمس.
نعم لم تتمكن الثورة وقيادة الشعب حتى الآن من تحقيق الأهداف الوطنية في الاستقلال الناجز والعودة، وهذا يعود لجملة من الأسباب والعوامل الذاتية والموضوعية، التي أعتقد أن مصطفى الصواف لا يجهلها، لكنه لا يريد أن يعيها، من بينها دور حركته الإخوانية، التي لعبت وما زالت تلعب حتى يوم الدنيا هذا دورا معطلا للاستقلال الوطني عبر انقلابها، وقبل ذلك عبر رفضها مشاركة القيادة الوطنية الموحدة زمن الانتفاضة الكبرى أي فعاليات مشتركة، ولم تقبل مجرد إصدار بيان واحد مشترك مع فصائل العمل الوطني، ووضعت إسفينا في الجسد الوطني.
ولا أعرف إن كان الصواف وحركته الانقلابية يعون قيمة وأهمية الوحدة الوطنية أم لا، وبغض النظر عن ذلك، فإن تمسك قيادته بالانقلاب وخيار بناء الإمارة في قطاع غزة بحد ذاته يعكس التفريط الواضح والعميق ليس بالدولة الوطنية المستقلة على حدود الـ1967، وإنما يخدم أجندة العدو الصهيوني شاء ذلك أم أبى، وهذا ما أعلنه نتنياهو، الذي كان يحول الأرصدة المالية لقادة حماس بملايين الدولارات، وعبر الشنط القطرية لكي يحافظ على بقائها بهدف تمزيق وتبديد القضية الوطنية، وخدمة المشروع الكولونيالي الصهيوني. لأن هذه هي وظيفة فروع جماعة الإخوان المسلمين في بقاع الأرض عموما وفي فلسطين خصوصًا.
إذا أيها الإخواني تريث قليلاً، ولا ترفع سقفك في الهجوم على سادتك. لكنك أسوة بكل أقرانك لا تتورعون عن كل الخطايا والنواقص، وتغطونها بحملات التضليل والتهريج، على طريقة اكذب اكذب حتى تصدق نفسك ويصدقك الآخرون. كان الأجدر بك، ألّا تتورط في أمر يكشف عوراتك، ويفضح خيارك وخيار حركتك، استر على نفسسك، ولا تتعدَّ أو تتطاول على المناضلين الأبطال، وعلى أهم وثيقة فكرية سياسية ثقافية فنية فلسطينية، لأنها ستبقى منارة وبوصلة للكفاح الوطني التحرري، وسيأتي الاستقلال عما قريب استنادا للوثيقة العظيمة.
المصدر: الحياة الجديدة
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها