عندما نعرف الفارق بين معنى (قيام دولة فلسطين) التي وردت في إعلان وثيقة الاستقلال الصادرة عن الدورة 19 للمجلس الوطني الفلسطيني في الخامس عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر من العام 1988، وبين معنى (إقامة) التي يرددها بعض الساسة والمواطنين، سنفهم مضمون وفلسفة ومبادئ وأبعاد الوثيقة، فإيضاح الفارق اللغوي سيمكننا من قراءة أهدافها السياسية.
ففي معظم معاجم اللغة العربية القديمة والحديثة، ورد معنى قيام بما يفيد الانبعاث من جديد، الوقوف والثبات، فيما ورد معنى إقامة بما يفيد الإنشاء والتثبيت والترسيخ، ونعتقد في هذا السياق أن معنى جملة (قيام دولة فلسطين فوق أرضنا الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف) كما كتبت في نص إعلان وثيقة الاستقلال هي الصحيحة الواجب استخدامها، لتأكيد وإثبات أمر هام جدا أن منظومة الاحتلال الاستعمارية العنصرية المسماة (إسرائيل) هي التي أنشئت حديثا على أرضنا الفلسطينية، أرض وطننا التي ثبتها الإعلان كحقيقة تاريخية أبدية لا تقبل تأويلاً أو تفسيرًا غير هذا النص: "على أرض الرسالات السماوية إلى البشر، على أرض فلسطين ولد الشعب العربي الفلسطيني، نما وتطور، وأبدع وجوده الإنساني والوطني عبر علاقة عضوية لا انفصام فيها ولا انقطاع بين الشعب والأرض والتاريخ". لذلك أعاد كتاب الوثيقة تثبيتها في خلاصة نصها: "واستنادًا إلى الحق الطبيعي والتاريخي والقانوني للشعب العربي الفلسطيني في وطنه فلسطين، فإن المجلس الوطني يعلن، باسم الله وباسم الشعب العربي الفلسطيني قيام دولة فلسطين فوق أرضنا الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف".
إن القارئ بدقة وتأن لوثيقة الاستقلال سيدرك أن المجلس الوطني الذي أعلن قيام دولة فلسطين لم يرسم حدودها الجغرافية ويحصرها على حدود الرابع من حزيران من العام 1967، حتى وإن حدد عاصمتها بمسمى "القدس الشريف" لأن القدس تاريخيا هي العاصمة، فالمجلس الوطني رغم اعتباره القرار181 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947 مجحفا بحق الشعب الفلسطيني، إلا انه أشار إلى كونه فرصة للمجتمع الدولي للبناء عليه، حيث ورد النص كالتالي: "ومع الظلم التاريخي الذي لحق بالشعب العربي الفلسطيني بتشريده وبحرمانه من حق تقرير المصير، أثر قرار الجمعية العامة رقم 181 عام 1947م، الذي قسم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية، فإن هذا القرار ما زال يوفر شروطا للشرعية الدولية تضمن حق الشعب العربي الفلسطيني في السيادة والاستقلال الوطني".. وهذا مستند آخر لثوابت السياسة الفلسطينية، واحدث صورها حسب تقديرنا ما قاله سيادة الرئيس محمود عباس في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 24 سبتمبر/ أيلول عندما قال: "إن شعبنا لن يسلم بواقع الاحتلال وممارساته غير الشرعية، وسيواصل نضاله للوصول إلى حقوقه في تقرير المصير، والبدائل أمام شعبنا مفتوحة، بما فيها خيار العودة لحل يستند إلى قرار التقسيم رقم 181 للعام 1947. نذكر الجميع أن إسرائيل كانتْ قد استولت بالقوة العسكرية على نصف الأرض المخصصة للدولة الفلسطينية في العام 1948، وهو حلٌ أيضا متوافقٌ مع الشرعية الدولية" ثم أكد: "وفي حال مواصلة سلطات الاحتلال الإسرائيلي تكريس واقع الدولة العنصرية الواحدة، كما يجري اليوم، فإن شعبنا الفلسطيني، والعالم بأسره، لنْ يقبل بذلك، وستفرض المعطيات والتطورات على الأرض الحقوق السياسية الكاملة والمتساوية للجميع على أرض فلسطين التاريخية، في دولة واحدة".
إن وثيقة الاستقلال التي تعتبر المرجع الأساسي لبرنامج منظمة التحرير الفلسطينية السياسي، وقوانين السلطة الوطنية الفلسطينية ستبين لنا أن برنامجنا السياسي النضالي مفتوح، حدوده أرض وطننا فلسطين، بأبعادها التاريخية والطبيعية، رغم انسجامنا التام مع قرارات الشرعية الدولية، فأعضاء القيادة التاريخية للشعب الفلسطيني الذين صاغوا الوثيقة ومنهم الرئيس محمود عباس أبو مازن لم يغفلوا الظلم التاريخي الواقع على الشعب الفلسطيني، وزيف الخرافة الصهيونية حيث ثبتوا في الوثيقة التالي: "في الوقت الذي كان فيه العالم المعاصر يصوغ نظام قيمة الجديدة كانت موازين القوى المحلية والعالمية تستثني المصير الفلسطيني من المصير العام، فاتضح مرة أخرى أن العدل وحده لا يسير عجلات التاريخ.. فالشعب الذي حرم من الاستقلال وتعرض وطنه لاحتلال من نوع جديد، قد تعرض لمحاولة تعميم الأكذوبة القائلة "إن فلسطين هي أرض بلا شعب". وعلى الرغم من هذا التزييف التاريخي، فإن المجتمع الدولي في المادة 22 من ميثاق عصبة الأمم لعام 1919، وفي معاهدة لوزان لعام 1923 قد اعترف بأن الشعب العربي الفلسطيني شأنه شأن الشعوب العربية الأخرى، التي انسلخت عن الدولة العثمانية هو شعب حر مستقل. "بمعنى أنه لم تتح لنا فرصة تجسيد السيادة بسبب الاستعمار البريطاني الذي استولى على فلسطين مع انهيار الدولة العثمانية وسلمها بعد ذلك لمنظمات الإرهاب الصهيوني".
المصدر: الحياة الجديدة
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها