ما زلت أتذكر نبرة المذيع الذي أعلن نبأ اغتيال غسان كنفاني بعد ظهر يوم 8 تموز / يوليو 1972، كنت أحضر نفسي لقيلولة قصيرة في بيت والدي في بيت صفافًا جنوب غرب القدس تاركا روحي مع موسيقى المذياع لتهدأ وأنام. فجأة قطع مذيع البث ليعلن  الخبر العاجل القادم من بيروت، خبر اغتيال الأديب والسياسي الفلسطيني غسان كنفاني قرأ المذيع  الخبر بنبرة حزينة جدًا عبرت عن وعي بقيمة الفقيد الوطنية، والأدبية وخسارة الشعب الفلسطيني الفادحة بفقدانه.

في تلك المرحلة كنت أنتمي لذات الفصيل الذي كان فيه كنفاني عضوًا في المكتب السياسي والناطق باسمه. لذلك كانت الصدمة مضاعفة، فهو رفيق وقائد. كان غسان أحد الرموز، ونموذجًا نضاليًا وفكريًا، يطمح كل شاب من ذلك الجيل الفلسطيني أن يتشبه به، وبفعله  النضالي النوعي، والمتعدد الأوجه. كنت قد سمعت وقرأت عنه، وله، لكن لم يسعفني الحظ بلقائه، كنا نستخدم الكثير من مقولاته، ومفرداته في حواراتنا السياسية والفكرية كجزء من الإدعاء الثقافي، وكنا نتبادل كتبه ورواياته ومقالاته.

لم يطل بي المقام في التنظيم الذي جمعنا عن بعد، ولكن لم يغادرني كنفاني، فهو أشمل من أن نحصره بفصيل أنه بحجم وطن، وحدود فكره وإنتاجه الأدبي  تؤطر الانسانية بمضمونها التحرري النهضوي. في حركات التحرر، خاصة الماركسية منها، كانت صورة غسان كنفاني توضع في مكاتبهم، وغرف نومهم إلى جانب تشي غيفارا وهوشي منه، لقد كان أحد رموز الثورة العالمية، وقبل كل شيء رمز من الرموز الوطنية، رموز الثورة الفلسطينية العملاقة.

أذكر أن كل فصائل الثورة كانت تختلف فيما بينها، ولكن جميعها لا تختلف على احترام  وتقدير كنفاني، كان وحدويًا بوصلته النضالية لا تحيد عن العدو الصهيوني والإمبريالي، وهو يدرك انك لا يمكن أن تكون قوميًا ولا أمميًا حقيقيًا إلا إذا كنت وطنيًا بالعمق. في سنوات عمر قليلة ألّف 18 كتابًا وتنقل بين العديد من الصحف والمحلات وكتب باسمه وبأسماء مستعارة مئات المقالات  في السياسة  والأدب والفكر. وكأنه كان يشعر إن الموت سيخطفه مبكرًا كان يسابق الزمن ليترك للأجيال اللاحقة تراثًا أدبيًا غنيًا، ووعيًا وطنيًا نقيًا.

غسان إلى جانب العظام محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وإميل حبيبي هو وهم من صنع الهوية الثقافية للشعب الفلسطيني. أجيال فلسطينية متعاقبة راكمت وصقلت وعيها الوطني على ما كتب غسان كنفاني وكتب هؤلاء. وأذكر كيف قامت الدنيا ولم تقعد عندما فكرت وقررت حماس تغيير اسم مدرسة غسان كنفاني في قطاع غزة إلى اسم آخر، إنه نوع من الكفر الوطني لأنهم يُمْسون أيقونة وطنية وإنسانية.

غسان كنفاني الذي اغتاله الموساد الإسرائيلي قبل 43 عامًا وهو في ربيع عمره (36 سنة)  لا يزال يعيش بيننا وفينا وسيدرس أبناؤنا واحفادنا تراثه الأدبي والنضالي، لتبقى بوصلتهم موجهة نحو فلسطين التي لا وطن لنا غيرها.