لم تستطع قوة استعمارية في تاريخ البشرية فرض ذاتها على الشعوب الأخرى، ولم ولن تبلغ مهما امتلكت من مقومات لتحتل مقام القدر في تقرير مصيرها، فالحرية هي الروح الأعظم المحركة لإرادة أي شعب في الدنيا، ومنها تنبعث قوة دافعة ترقى بالتفكير والعمل والسلوك الفردي والجمعي فتتحول إلى مشيئة قادرة على تجسيم الآمال والأهداف والأفكار الخلاقة إلى حقائق مادية تدحض وتنسف كل مقولات ودعايات القوى الاستعمارية القاضية بضعف هذا الشعب أو ذاك المستهدف بالاستعمار والغزو والهيمنة بكل أشكالها القديمة منها والحديثة، كما المستسلمون مسلوبو الإرادة والقدرة على التفكر والتأمل والتفكير ومقومات الشخصية المنطقية العلمية يأخذون قوة وقدرة المستعمر على التدخل في شؤون حيواتهم ابتداء من تحصيل المأكل والمشرب، وصولاً إلى تحقيق الحرية والاستقلال واستقلالية القرار بمثابة قدر لا تحرر منه، ويبالغ هؤلاء إلى درجة أنهم يعتبرون أنفسهم مجرد أدوات (مخلوقات آدمية) مسيرة، تكاد لا تعرف معنى (الخَيَار) وحرية الاختيار واستقلالية القرار، والأنكى، أنهم يرفضون التجاوب مع أي فرصة تبين لهم خطأ نظرتهم الدونية الفادح، ليس نتيجة جهلهم أو تدني مستوى المعرفة لديهم، وإنما من باب التعصب لنظرتهم ومفاهيمهم، ظنًا منهم أنهم بذلك يثبتون صحة وجهة نظرهم، فيدلون بكلام يبدو كمسلمات عندهم، لكن ليس فيه أي برهان، وليس فيه إلا إعدام ميداني مباشر لشخصيته الإنسانية وشخص محاوره. 

قال أحد هؤلاء: "ستنفذ إسرائيل كل ما تريد"  - لاحظوا كلمة (ما تريد)، وقال آخر: "سيطبق ترامب خطته شئنا أم أبينا"، ليستسلم ثالث ليصور معهما الشعب الفلسطيني مجرد (تجمع بشري) مسلوب، يقوده مرياع فيقول لك بعد تجرعه حتى الثمالة تقارير فيسبوكية وصحفية ممولة: "المفصول سيكون رئيس فلسطين القادم" وعندما نسأله: ما برهانك على حتميتك الحماسية هذه، يقول لنا: "إسرائيل وأميركا تريدان ذلك"!!.. والأعجب أننا نسمع هذا التحقير لإرادة الشعب الفلسطيني من شخص يحمل شهادات جامعية، ومثله شخص يحمل شهادة، لكنها شهادة ضعف بالدماء الوطنية، وبالتأكيد نسمع هذا التسليم بالخضوع والاحتقار للذات وللآخر الفردي والجمعي من شخص لا فرق عنده بين الحرية والعبودية ومعياره لتقدير أهمية كل منهما متعلق بحصوله على (رأس معسل) حتى لو كان بطعم البصل!. 

يناضل الشعب الفلسطيني منذ أكثر من مئة عام، قبل وعد بلفور، كان من أوائل الشعوب العربية التي سعت للخلاص من هيمنة الدولة العثمانية، ثم ناضل ضد الانتداب البريطاني ووعد بلفور، وأطلق ثورات، ما كادت تنطفئ شعلة إحداها إلا وأشعل أخرى من جذوتها، قاوم التقسيم وقاتل رجال فلسطين ببطولة حتى خذلته المنظومة الرسمية العربية ولنا في رسالة شهيد معركة القسطل وقائدها عبد القادر الحسيني أعظم دليل، وهذا نصها المكتوب بخط يده في 9 نيسان/إبريل من العام 1948: "السيد الأمين العام لجامعة الدول العربية – القاهرة، إني أحملكم المسؤولية بعد أن تركتم جنودي في أوج انتصاراتهم دون عون أو سلاح". 

أطلق الشعب الفلسطيني الثورة الفلسطينية قبل أكثر من نصف قرن وما زالت شعلتها تضيء أمام كل المناضلين الدرب نحو الحرية والاستقلال، وحرر قراره الوطني من براثن مستخدمي القضية الفلسطينية كأوراق ومستندات، تجار تعاملوا مع قضية فلسطين كتعاملهم مع الأسهم التجارية ولكن في بورصة السياسة، في أسوأ تعاملات وأشدها فظاعة لضمان بقائهم على كراسيهم فقط وممارسة لعبة إخضاع شعوبهم. 

لا أدري من أين يستخرج المستسلمون والمروجون لهذا (المخدر الأخطر) الذي يسمونه (مشيئة وإرادة إسرائيل) و(مشيئة وإرادة ترامب) ويظنون أنه لا غالب لهما ابداً، وكأنهم لا يعيشون يوميات هذا الشعب العظيم الذي يقوده رئيس دولة وقائد حركة تحرر وطنية، وتجسدت فيه صور الإخلاص والأمانة والمصداقية والشجاعة والحكمة والعقلانية والواقعية والصلابة والدهاء، فالرئيس محمود عباس سيسجل له التاريخ أنه رئيس الشعب الفلسطيني الذي وقف متمسكًا بثوابته، وقال لا كبيرة مدوية في وجه ترامب ونتنياهو ضابط قاعدته الاستعمارية المتقدمة المنشأة على أرض فلسطين المسماة (اسرائيل)، قال لا صلبة ثابتة مشتقة من روح المبادئ الوطنية لأنه على يقين أن معه شعبًا قادرًا على تحمل تبعاتها ونتائجها، فليس الشعب الفلسطيني الذي يقبل بقدر غير قدر خالقه جل وعلا، وليس الشعب الفلسطيني الذي يقرر أحد من هذا العالم نيابة عنه، وخطابه واضح في أحدث موقف يعبر عن استقلالية القرار الوطني الفلسطيني إذ قال: "لا أحد يستطيع أن يحل محلنا، هذا الزمن ولى من وقت طويل لن يعود إلى الوراء، فلسطين هي التي تتكلم عن نفسها، هي التي تقول نعم وتقول لا". 

القرار الوطني الحر المستقل وإرادة أي شعب هي القدر الحقيقي الضامن لاستمرار وجود شعب ما على وجه الدنيا، وهو القوة الدافعة لشعوب وحكومات ودول أيضًا  لتغيير مواقفها والعمل على الخلاص من هيمنة المستعمرين الجدد، فترامب فشل مؤخرًا في مجلس الأمن والأمم المتحدة، ورجع وزير خارجيته بومبيو من الخرطوم بحزمة (بامبو سوداني) فارغة وهو الذي كان يأمل أن يرجع بثمرة تطبيع بين الخرطوم وتل أبيب، فحكمة سياسة رئيسنا المعززة بصمودنا وثباتنا  باتت دروسًا وعظات للآخرين بأن المستعمرين المحتلين العنصريين وعملاءهم وأُجَراءهم ما كانوا ولن يكونوا قدرًا حتى نسلم لهم.