ليست المرة الأولى، التي أُسلّطُ فيها الضوء على عمليات القتل داخل مدن وبلدات وقرى الجليل والمثلث والنقب والمختلطة، ولكن بعد تصاعد وارتفاع نسبة عمليات القتل في داخل الداخل، التي بلغت حتى الآن 72 عملية قتل، وزادت بنسبة 65% عن العام الماضي وفق معطيات جهات الاختصاص، وبعد عملية قتل الشباب الثلاثة من قرية مجد الكروم الأسبوع الماضي، التي اعتبرت إنذارًا إضافيًّا، وجرسًا قرع أبواب كل الجهات المسؤولة في أوساط المجتمع الفلسطيني داخل دولة الاستعمار الإسرائيلية، تداعت لجنة المتابعة العربية العليا لعقد اجتماع طارئ يوم الأربعاء الماضي (2/10/2019) ودعت لإضراب شامل في اليوم التالي (الخميس)، الذي عمَّ جميع المدن والبلدات والقرى بما في ذلك رياض الأطفال والمدارس وورش العمل وحتى العمال، الذين يعملون في المؤسسات والمدن الإسرائيلية، وتوج الإضراب بمظاهرة حاشدة عصرًا في مجد الكروم، عكست روح التضامن والتكافل بين قطاعات وشرائح وطبقات ونخب الشعب بكل اطيافه السياسية والأكاديمية والثقافية والاقتصادية والدينية والمذهبية، وتأكيدًا من الجماهير الفلسطينية على حرصها العميق على الدفاع عن الذات والهوية الوطنية، والتصدي للوحوش الآدمية المنفلتة من عقالها بدعم كامل من أجهزة الأمن الإسرائيلية. 

حرب القتل القذرة باسم الثأر، والانتقام، أو لأتفه الأسباب في اوساط شعبنا داخل مناطق الـ 48، ليست وليدة الصدفة، ولا تعود لتركيبة وثقافة أبناء الشعب الفلسطيني، وإن كان لذلك دور، لا يجوز تجاهله، ولا هو نتيجة الفقر والفاقة، انما لسبب أكثر اساسية، هو دور المؤسسة الأمنية الإسرائيلية في تعميق هوة الخلافات بين أبناء الشعب الفلسطيني، وفي نشر السلاح دون ضوابط في أوساط المجتمع الفلسطيني في الداخل، وفي عدم ملاحقة الجناة، وتعميم ظاهرة الفوضى والفلتان الأمني، وصب الزيت على عمليات الانتقام، وفي ترويج المخدرات في المدن والبلدات الفلسطينية، ومن خلال انتشار محازبي وأنصار الأحزاب الصهيونية، الذين يرتقي عملهم إلى درجة العمالة عبر تنفيذ سياسات وبرامج تلك الأحزاب، التي تشكل رافعة الحركة الصهيونية ومشروعها الكولونيالي، وأداة مؤسساتها الأمنية والعسكرية في تصفية الوجود الفلسطيني في أرض الآباء والأجداد بدفع منتسبيهم لارتكاب حماقات وجرائم قتل دون وازع أخلاقي أو قيمي أو وطني أو ديني. لا سيما أنَّ ممثلي تلك القوى (الصهيونية) لا يغيب عن وعيهم، ودورهم كيفية استثمار انتساب عدد من النفعيين والانتهازيين من سقط المتاع الفلسطيني، وتجار الضمير والهوية الوطنية في سوق النخاسة الصهيونية لارتكاب أبشع عمليات القتل الرخيصة والجبانة ضد ابناء جلدتهم لاسباب تافهة، أو دون أسباب تذكر، أو من خلال افتعال أسباب وهمية لا قيمة لها، وتمكن معالجتها بسهولة، ودون تدخل أحد. 

لكنّ أدوات وزارة الداخلية من المتساقطين، وبقيام ممثلي تلك الوزارة وأجهزتها، وبإشراف من مراكز عمل متخصصة صهيونية تخضع لرئاسة مجلس الوزراء تقوم بتنفيذ أجندة دولة الاستعمار الإسرائيلية لتمرير "قانون القومية الأساس للدولة اليهودية"، ودفع الجماهير الفلسطينية نحو خيار وحيد، هو الترانسفير لتفريغ الأرض والمدن والبلدات الفلسطينية في الجليل والمثلث والنقب والمدن المختلطة من اصحاب الأرض والوطن الأصليين، ولتتمكن الدولة المارقة، والخارجة على القانون من عملية تطهير عرقي دون ضجيج، أو إثارة الرأي العام الداخلي والعالمي، وبذلك تكون حققت هدف وشعار الحركة الصهيونية التاريخي "أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض". 

غير أنَّ العقل الصهيوني الانحطاطي، والقاصر لم يتعلم من تجربة التاريخ في الصراع مع الشعب الفلسطيني على مدار ما يزيد على القرن، ولم يستفد من الدروس والعبر السابقة، وهي أن الفلسطيني، وإن كان فيما مضى وقع ضحية الدعاية الكاذبة لبعض العرب، الذين أوهمومهم بالعودة خلال أسبوع أو أسبوعين لبيوتهم، ووقع بعض أبنائه فريسة للخوف الناجم عن المجازر وجرائم الحرب الوحشية الصهيونية، فإنه لم يترك وطنه الأم، ولن يتركه مهما كانت التضحيات، وحتى أولئك الذين اضطروا لتركه تحت ضغط ورهبة سيف المجزرة الصهيونية من مئات الآلاف من أبنائه للشتات أو للهجرة لاعتبارات مختلفة سيعودون له، وهم أكثر تشبّثًا بالهوية الوطنية الفلسطينية والقومية العربية. وبالتالي من تجذر في وطنه لن يترك فلسطين، وسيبقى متجذرًا في أرض الآباء والأجداد. الأمر الذي يفرض على قادة إسرائيل عمومًا ورئاسة الحكومة ووزارة داخليتها مراجعة تجربتهم، والاتعاظ والتعلم من دروسها. وأهمها ضرورة القبول بالفلسطيني العربي، والتعايش معه، وإقامة السلام الممكن والمقبول على أساس خيار حل الدولتين على حدود الرابع من حزيران عام 1967، قبل فوات الأوان، لأن المستقبل لا يسير باتجاه صاعد لدولة الاستعمار الإسرائيلية، بل بات مع بلوغها الذروة في الانحدار، والانحدار السريع مع صعود اليمين المتطرف والفاشية الصهيونية. فهل تقوم أجهزتها الأمنية بجمع السلاح من المجرمين، وملاحقتهم، وكشف الجناة القتلة من أدواتها، والكف عن توزيع الأسلحة دون ضوابط، والحد من عمليات القتل المجاني؟