أعلن الرئيس أبو مازن دعوته للانتخابات العامة من المنبر الأممي، وهذا مؤشّرُ التزامٍ عالٍ وعالمي، وأتبعَ ذلك بخطوات أخرى تدلّل على الجديّة في عملية إجراء الانتخابات من خلال الاجتماعات التي عقدها للقيادة الفلسطينية، وما صدر عنها من قرارات تؤكِّد الموضوع. 

نحنُ في حالة تأزُّمٍ داخليٍّ منذ أكثر من ١٢ عامًا، أي منذُ الانقلاب الدموي على غزّة، الانقلاب الذي لم تستطع السلطة حينها التعامل معه بصلابة الرفض أو المجابهة له، فانسابت الأمور إلى الدرجة التي أصبح فيها الانقلاب واقعًا قائمًا، ويتم تجميله بصيغة "الانقسام" أو بالقول "طرفَي الانقسام".

 ومع مجموعة كبيرة من الاتفاقيات المنقوضة منذ اتفاق مكة عام ٢٠٠٧ إلى اتفاق المصالحة عام ٢٠١٧ سالت أحبارٌ كثيرة، وبُحَّت أصوات، والمواقف لم تتزحزح والانقلاب يتقدَّم تحت الحراب وقنابل الشتيمة والاتهام، محقِّقًا لمصالح الأباعد وتواصل الجفاء الوطني. 

بغض النظر عن وجهة نظرنا بالانقلاب الذي نرفضه من حيثُ المبدأ، إلّا أنَّه أصبح واقعًا قائمًا، ويجب التعاطي معه ليس اعترافًا به وبما نتج عنه، وإنّما لغرض تحقيق الاقتراب، وبالبحث عن عوامل الاتفاق والجمع لا عوامل الخلاف والإقصاء، أي بغض النظر عن اختلاف الروايتين لمفهوم الانقلاب "الانقسام" وما نتج عنه فإنَّنا مطالبون دومًا بالتواصل لإنهاء الحالة العدمية القائمة. 

طرحت الفصائل الفلسطينية مبادرةً اعتبرتَها مخرَجًا للحل، وطرح الرئيس مبادرة الانتخابات مكرِّرًا ما كان قد بذل فيه جهودًا كبيرة، وهنا لنا ٤ نقاط من الممكن أن نضعها في الاعتبار في ظلِّ تفكير الاحتمالات والسيناريوهات لما قد يجري.

 

أوّلاً: الثقة والجديّة وهي النقطة الأساس، فهل نجد جدية في التعامل مع قرار الرئيس من قِبَلِ "حماس" والفصائل؟ أم سيتم عرقلتها؟ والأسباب جاهزة بالطبع. وهل في المقابل هناك جديّة أصلاً لدى السلطة لإجراء الانتخابات؟ أم أن ما يحصل هو عبارة عن محطة انتظار كبيرة لما ستسفر عنه الأوضاع المهترئة في النادي السياسي في "إسرائيل" وأمريكا بشكل أساسي، وفي الإقليم. 

فكر الهيمنة أو الإقصاء يُتَّهمُ به الرئيس أبو مازن وحركة "فتح" من قِبَلِ "حماس" دون النظر لفعل الهيمنة والإقصاء بل والانهيار الأخلاقي المعيب الذي تتميّز به بيانات تشريعي "حماس" ونوابه الذين حكموا غزّة بالانقلاب، وأدمنوا شتم السلطة والرئيس علنًا وبلا خجل بل وفي المنابر العالمية! وهنا تنعدم الثقة وتتسوّد الصورة فمن يأتي ليبيّضها؟ وفي ذات الإطار لا يحق لمن يمارس ذات الفعل السلبي أن ينتقده لدى غيره، فهذا من ذاك، مع الفارق الكبير في الخلق والأدب والمسؤولية.

وفي سياق الجدية، مع ضرورة استجلاب الثقة بشكل تراكمي، فإن وجدت من قِبَلِ "حماس" ومن قِبَلِ السلطة، فمّما لا بد منه أن نلتقي في منتصف الطريق بلا أفكار هيمنة أو إقصاء، بغض النظر عن طبيعة نظرتنا نحن للانقلاب ونتائجه فنحن فلسطينيون وما يجمعنا أكبر، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام. 

ثانيًا: نطاق الانتخابات: قد لا نفهم المطلوب على حقيقته في ظلِّ التوالي والتوازي (التزامن)، فهناك مَن يرى توازي الانتخابات أي أن تعقد الانتخابات التشريعية والرئاسية والمجلس الوطني معًا، وهناك من يراها متتالية أي تشريعية ثُمَّ رئاسية أو العكس. 

وفي جميع الأحوال فإنَّ اشتراط انتخابات المجلس الوطني في العالم هو شرط تعجيزي بامتياز! فمن سيعقد الانتخابات في مصر والأردن لبنان وسوريا ونحنُ نرى عمق المشاكل التي تعانيها هذه الدول الشقيقة؟! وقِس على ذلك دول العالم الاخرى وإن بنسب أقل.

ثالثًا: شكل الانتخابات: قانونية الانتخابات ومن يعقدها؟ وكيف؟ من المفترض أنّها لا تخضع لنقاش، ولكنّ ذلك ما لن يكون للأسف في ظلِّ صراع "التشريعي" و"الرئاسة"، وقانونية استمرار المواقع، إلّا أنّه في ذات السياق تظهر إشكالية أخرى يجب الانتباه لها، فهل نحن نتحدث عن انتخابات سلطة أم دولة؟

وفي السياق أيضًا هل نحن نتحدث عن قائمة مشتركة موحَّدة أم قوائم؟ وهل نتحدث عن تمثيل نسبي كامل أم لا؟ وهل نتحدث عن قائمة واحدة في غزّة والضفة والقدس أم لا؟ وهل ستُعقد الانتخابات بدون القدس أم ستعقد بدون غزّة والكثير من الأسئلة المماثلة التي تحتاج لجهد حقيقي وثقة وجدية لتنفيذ قرار الانتخابات خروجًا من المأزق القائم. 

رابعًا: الحل: ما بين فرض الأمر والسلطوية والإجبار، أو التقبُّل والانعطاف السياسي الداخلي والتقارب مسافة طويلة، يمكن تجاوزها بما لا مفرَّ منه، أي الحوار والتوافق، وتبنّي الرؤية المشتركة والبرنامج السياسي المتّفق عليه، وتنفيذ ما اتفق عليه عام ٢٠١٧ بوضوح، ما يعني الوقوف في منتصف الطريق فلا هيمنة ولا إذعان.

وإلى ذلك دعني أقول أنَّ من معيقات التوافق الصلبة لدينا فكر القوالب الجامدة من جهة، والخيالات الحالمة، وفن صناعة الأطر الموازية، وانعدام احتراق القانون، وافتراضات العصمة، إضافةً لدور بعض جهات الدعم الإقليمية التي تخترق جسد عدد من التنظيمات الفلسطينية فتمنعها من التوافق، وهو من أخطر ما حصل لنا كمنظمات ثورية وطنية ما يمكن ويجب تجاوزه بالحوار مع تلك الجهات المؤثّرة على هذه التنظيمات.

ولأكون أكثر وضوحًا بالشأن الاقليمي فإنّني أرى ضرورة فتح الحوار، وإمكانية التأثير لكلِّ من إيران وتركيا في المعادلة شئنا أم أبينا من جهة، وإمكانية استخدام العلاقات الفلسطينية القيادية الجيدة مع بعض التنظيمات العربية الإسلاموية ذات الصلة الجيدة مع بعض الفصائل الفلسطينية وتحديدًا "حماس" وتجييرها للمصلحة الوطنية والقومية. 

فهل نحن مستعدون؟ -أقصد في الأطر الأربعة- أي هل نحن مستعدون كحركة "فتح"؟ وهل نحن مستعدون كـ"حماس"؟ وهل نحن مستعدون كفصائل؟ وهل نحن مستعدون كمنظمات مجتمع مدني وجماهير للتنازل لبعضنا البعض والوقوف في منتصف الطريق باحترام يجب ألا يزول حتى في أحلك محطات الاختلاف؟

إنَّ التقدير الكبير الذي لقيته مبادرة الرئيس بإجراء الانتخابات سواء أكانت متوازية (متزامنة)، أم متتالية يجب دعمها بكل ثقة وإيمان والتزام منحّين جانبًا كلَّ ماضي الخلاف وارتداداته، الذي لا ينبغي له أن يدوم فيتأبّد، وكأنّنا نصرخ في صحراوين متباعدتين، والعدو يطوقنا من أمام ومن خلف بلا هوادة.

في كلِّ ذلك أسئلة كبيرة وكثيرة، لكنَّ الحل يبدأ بما بدأنا به أي بالجدية والثقة والالتزام ومد اليد وعدم قطعها، ودعني أقول بقليل من المحبة والتسامح التي إن لم تتوفّر فكل ما نتكلم عنه ستذروه الرياح، ونظل واقفين في محطة الانتظار على أمل أن يصلنا القطار غير مدركين أنّنا نقفُ أصلاً في المحطة الخاطئة.