أيلول 2011: واقف ضمن جمهرة في ميدان ياسر عرفات (الساعة) برام الله. ملتحفاً بعلم ذي ثلاث نجوم حمر. معظم الجمهرة تلوح بعلم ذي نجمتين خضراوين. العلمان يتنافسان في الانتفاضة السورية الجارية منذ نصف سنة.

أيلول 1961: واقف ضمن جمهرة أمام سراي الحكومة في قرية دوما (لاحقاً بلدة ثم مدينة). أسقطنا علم النجوم الحمر الثلاث، ورفعنا علم النجمتين الخضراوين. إلى الآن، بعد نصف قرن من "دورة الزمان" أتذكر كيف جرحتني قماشة العلم ذي النجوم الحمر الثلاث بين سبابتي وإبهامي.. وأنا أمزق علم سورية الذي صار علم الانفصال عن مصر.

هذه مفارقة أولى عن فوضى الربيع العربي، الذي لم يبدأ حقاً هذا العام، لكنه بدأ قبل ذلك بفوضى الأعلام القطرية.

مفارقة ثانية: في آذار 1963 خرجت من جامعة دمشق تظاهرة طلابية ترفع الأعلام ذات النجمتين الخضراوين (علم الجمهورية العربية المتحدة) وكذلك علم فلسطين وعلم حزب البعث. ثار خلاف وشجار طلابي بين حملة علم فلسطين (وكانوا طلاباً من قطاع غزة) وحملة علم البعث، علماً أن هؤلاء وهؤلاء كانوا ضد الانفصال ومع عودة الوحدة بين سورية ومصر.

المفارقة الثانية غير واضحة لكم، لكنها لا تمحى من ذاكرتي مطلقاً، لأنني كفلسطيني سوري، رفضت قلب علم فلسطين عاليه سافله، أي اللون الأخضر هو العلوي بدل اللون الأسود هو العلوي. هل هذا واضح؟ لا أعتقد.

عام 1976، وأول الصدام في لبنان بين سورية ومنظمة التحرير، زرت دمشق، وقصدت حانوتاً يبيع الأعلام، وسألت صاحب الحانوت علماً فلسطينياً؟ قال: لا وجود له عندي. ماذا فعلت؟ اشتريت علم البعث، وقلبته عاليه سافله.. فصار علم فلسطين!

لاحقاً، وبجرة قلم، غير حزب البعث علمه، وصار طبق الأصل من علم فلسطين.. وبجرة قلم غيرت سورية ومصر والعراق ألوان أعلامها، وأضافت نجمة خضراء ثالثة ترمز للعراق.. ولاحقاً، وبجرة قلم، غيرت سورية ومصر وليبيا ألوان أعلامها، وعلى اللون الأبيض وضعوا نسر صلاح الدين، بينما كتب صدام حسين عبارة "الله أكبر" بين ثلاث نجوم خضر على علم وحدة ثلاثية لم تتحقق.. ولاحقاً سقطت النجوم الخضر عن العلم العراقي، وأعادوا كتابة صيحة الإسلام بخط كوفي جميل.

لاحقاً، غضب معمر القذافي على كامب ديفيد وغير العلم إلى رقعة خضراء، إلى أن اندلعت ثورة ليبيا وأعادت علم المملكة الليبية القديم.

في هذا السياق، غيّرت المملكة المتوكلية اليمنية علمها الوطني، وكذلك السودان والإمارات وحتى موريتانيا، وجميعها تلاعبت بألوان علم الثورة العربية الكبرى (الشريف حسين)

الحقيقة، كان علم مصر القديم جميلاً (أخضر وهلال وثلاث نجوم بيض) وعلم العراق جميل عندما قرر عبد الكريم قاسم أن يضيف له رمزاً كردياً (الخنجر مقابل السيف العربي) وكان علم السودان القديم جميلاً لأنه أخذ ألوان إفريقيا الزاهية.

بدأت فوضى الأعلام القطرية العربية مع تأسيس الجمهورية العربية المتحدة، قبل نصف قرن بالتمام من فوضى ثورات الربيع العربي، كما تغير علم الاتحاد السوفياتي الى علم روسيا القديم، وكذلك أعلام بعض الدول الأوروبية الشرقية السائرة في الفلك السوفياتي.

لكن، خلال الثورة الفرنسية، أم الثورات الحديثة، رفض قائد من قوادها استبدال العلم الفرنسي الملكي بألوانه الثلاثة الأفقية: أزرق، أبيض، أحمر.. بعلم أحمر.

لا أعرف هل علم الجزائر الجميل (علم ثورة عبد القادر) هو الأقدم بين الأعلام العربية، أم علم تونس، أم علم مصر القديم، لكن لبنان وحده، والسعودية وحدها حافظتا على نسق أعلامها. وبالمناسبة، فإن علم لبنان تتوسطه أرزة جذورها تلامس الأحمر، وفروعها العليا تلامس الأحمر أيضاً (سيفنا والقلم / ملء عين الزمن) كما يقول النشيد الوطني اللبناني.

***

لماذا تلفعت بعلم سورية القديم، الذي كنت مزقته قبل نصف قرن؟ لأن النجوم الحمر الثلاث ترمز للدم كما للإمبراطوريات العربية: الراشدية، الأموية، والعباسية.. ولأن نشيد سورية أحلى نشيد قطري عربي، لأنه الوحيد الذي يقول "عرين العروبة حمى لا يضام".

وبالطبع، علم فلسطين الحبيب، وريث علم الثورة العربية الكبرى. فوضى أعلام بدأت قبل نصف قرن من فوضى الربيع العربي.