في أحاديث منبرية متكررة، لإسماعيل هنية، رئيس حكومة حماس في غزة، قيل ما معناه، أن حركته، وإن جاءت على نفسها، لكي تقبل دولة فلسطينية في حدود الرابع من حزيران (يونيو) 1967 فإن ذلك سيكون وفق شروط. وفي كل مرة، يبدأ تعداد الشروط بصوت عال وحماسي، وبكلمات مضبوطة الشكل، قوية الإلقاء، كأنها تستعيض عن الشرح بعلو النبرة، مع التشديد على مخارج الألفاظ!

غير أن الشرح، يظل هو المُفتقد الأهم، إذ كيف يمكن لنا، أن نأخذ في هذا الخضم العسير، دولة دون أن نعترف بإسرائيل كدولة أخرى قامت وتجبرت، ثم نكمل خارج النص المعتمد في السياسة، وداخل كل نصوص الثقافة والديانة، ما يؤكد على أن قيام هذه الإسرائيل، حدث بالقوة الاستعمارية الغاشمة، على مساحة منتهبة، تشكل نحو أربعة أخماس الأراضي الفلسطينية؟!

في خطاب هنية المتكرر، كان هناك مُفتَقد آخر مهم، وهو المتلقي الذي يصدّق أو يقبض هذا الكلام ويقيس أو يبني عليه بجديّة. فلا وجود لمتلقٍ يتسم ببساطة تجعله، حتى وإن بلغ صوت الخطيب عنان السماء؛ يتجاوز في حكمه على ما يسمع، حدود التقييم لجودة الخطابة.

من نحن بمعايير حسابات القوى الراهنة، وبدلالات الوقائع، لكي نشترط بصوت زجري عالٍ أن قبول تسليم العدو لنا بما يصعب عليه جداً، بمحددات من شأنها أن تمحوه؟! بالطبع، نتمنى أن نكون على غير ما نحن فيه من حال. وكم كان سيسعدنا الخطاب المرعد، لو قيل في لحظة بدء الخطوة الأولى من مسيرة الألف ميل. لكن أسوأ ما نحن فيه، هو افتقادنا للقدرة على بدء خطوة العشرة أمتار، فما بالنا بعملية تحشيد للعرب والمسلمين، أو حتى للفلسطينيين وحدهم، لكي نقاتل بعد أن نتسلح بعناصر القوة على كل صعيد. وإن رفضنا الدولة، لأن المحتلين يرفضون الشروط المنبرية، فهل نعلم ماذا سيتبقى من خُمس فلسطين المتاح، الذي سنرهن قبولنا لاسترداده، بالتأكيد على عزمنا الخطابي على تأمين استرداد الأربعة أخماس الأخرى؟!

الخطاب الحماسي القوي، مفيد في بعض الأحيان، وسيكون في موضع الإعجاب، إن كان مترافقاً مع عملية بناء متاحة بالعرق والجهد والتسلح وتأمين الأكلاف. ففي يوم 23 تموز (يوليو) 1967 وهو ذكرى الثورة، أي بعد 48 يوماً من وقوع الحرب التي هُزمت فيها الجيوش العربية؛ سجل جمال عبد الناصر ظهوره الأول، وألقى خطابه في مناسبة لا يستطيع تجنبها، وإن كان لا بد من تغيير مكانها واختصاره في القاعة الكبرى تحت قبة جامعة القاهرة. لم تكن هناك، يومها، كتيبة يمكنها أن تحاول صد هجوم من خط السويس في اتجاه القاهرة، فاحتشد أكبر عدد من مندوبي وسائل الإعلام الأجنبية، لكي يسمعوا ويشاهدوا بأم العين، كيف يغير عبد الناصر لغته ووجهته، ويلمح الى التخلي عن فلسطين. لكن الرجل، وبعد ان شرح بعض ملابسات ووقائع ما حدث، اختتم خطابه بالحديث عن الفارق بين السلام والاستسلام، قائلاً إنه 'برغم النكسة، ورغم احتلال سيناء، لن نتخلى عن حقوق شعب فلسطين، لأن هذه الحقوق هي أساس القضية. فهم يريدون أن نكفر بأهدافنا وأن نتنكر لأمتنا'. ثم أعلن قبل أن يغادر المنصة: إنني اؤمن بأن أجيالاً قادمة، سوف تلتفت الى هذه المرحلة وتقول، لقد كانت تلك، من أقسى فترات نضالهم، لكنهم كانوا على مستوى المسؤولية، وكانوا الأوفياء لأمانتها'!

بعد ذلك الخطاب، بدأت عملية بناء للقوة، ولم يتأخر الاشتباك مع العدو. كانت صفات الزُهد والثبات على الموقف والمناقبية والروح العالية، تضفي صدقية كبيرة على المسعى. لم يكترث عبد الناصر بمن سخروا من تسمية 'النكسة' وتفلسفوا وجعلوه مخادعاً يتحاشى تسمية الأشياء بأسمائها، علما بأن مقصده كان شحذ الهمم وتذكير الناس أنهم لم يهزموا نهائياً، وإنما وقعت لهم نكسة، لأن عناصر القوة كامنة في الأمة. فالنكسة عابرة والهزيمة مقيمة. هكذا تعمد أن يقول. وبدأت مراحل القتال التي خلع العسكريون على مراحلها أسماء كالردع والاستنزاف وغيرها. وفي كانون الأول (ديسمبر) 1967 أعلن الرجل بالفم الملآن، إن ما أخذ بالقوة لا يُسترد بغير القوة! 

كان، إذاً، للخطاب سياقه. لم يقدم عبد الناصر أيقونة بلاغية، إن أعجبت السامع مرة، فلن تعجبه مرة أخرى، لا سيما إذا تراوحت الأمور في مكانها، وجاءت نتائج المسعى كارثية. فما الذي فعله هنية وجماعته لكي يشترط بالصوت العالي؟! هل حافظوا على وحدة الكيانية الفلسطينية؟ هل قدموا بديلاً فعالاً للمسعى الوطني، بالتوصل الى تسوية ودولة على أراضي 67؟ هل كانت استراتيجية القتال التي اعتمدوها صائبة؟ وإن كانت صائبة، أو كانت بعض فصولها فرقاناً، مثلما يصفها ناطقون حمساويون؟ وإن كانت كذلك، فلماذا لا يقلدها الحلفاء المدججون بالسلاح، الذين استداروا لكي يقتلوا شعبهم أو يسومونه سوء العذاب؟ هل نجحوا في كسب ثقة الناس وفي الحكم بضوابط الشرع والتقوى؟ وهل لهم أي سياق الى الأمام، من أي نوع، سواء كان دعوياً أو أنموذج حكم راشد، أو مآثر جهادية، أو مراحل فرقانية، يطلق عليها العسكريون أسماء تعكس فحواها؟

إن الخطاب المنبري عالي النبرات، وبهذه الاشتراطات، يفعل سوى شيئاً واحداً، نظنه هو المطلوب بعينه: التأكيد بالإيحاء وبالمواربة، على أن الفجوة كبيرة بين طرفين، يسعى الوطني منهما، الى إعادة اللحمة، على أسس قانونية ودستورية، لكي نستكمل مسيرة العمل الوطني موحدين، ولكي نظل في قلب السياسة، وفي مربع المسؤولية، دون الحاجة الى منابر، نطلق منها خطابات عاطية، لا نجد من يتلقونها بجدية!