شهدت القضية الفلسطينية في الآونة  الأخيرة شكلاً آخر من أشكال الصراع والنضال والاشتباك السياسي والحراك العالمي جراء الإعلان عن المطالبة بالحق الذي يشكل الحد الأدنى لأي شعب على وجه البسيطة وهو الإعلان عن الدولة كاملة العضوية في الأمم المتحدة.

كثيرة هي الشعوب التي حققت اعتراف العالم بها ، ونالت عضوية الدولة دون أن يعرف الكثيرون الكثير عن المراحل التي تمر بها، ولا من هيكلية الأمم المتحدة ومؤسساتها، واي مؤسسة اكثر نفوذاً.

كما أن الكثير من حركات التحرر استطاعت أن تنال استقلال بلادها دون عناء كبير، ودون أن تمر بمراحل النضال والكفاح وأشكال ذالك  ودون أن تقدم ما قدمه شعبنا الفلسطيني، ولنلق الضوء على ما استطاع شعبنا أن يبذله من جهد تسبب في تعليم العالم، أي أن العالم اكتشف وتعلم مستجدات غير مسبوقة من متابعته لقضية شعبنا:

أولها : أن ظاهرة الاستعمار ليست ظاهرة حديثة بل عاشها العالم وتخلص منها، ولكن ظاهرة طرد شعب آمن من أرض أجداده والإلقاء به مشرداً في أصقاع العالم ، هي ظاهرة وجد العالم نفسه أمام مواقف عديدة .. منها المؤيدة لحق هذا الشعب ومنها المتنكرة لحقوقه، والمنحازة للكيان الطارد لشعبنا، وهذا ما أوجد وما تسبب في إصدار القرارات العديدة من المنظمة العالمية الرسمية والمنظمات المتفرعة منها ، ودفع المهتمين ومن فرض عليهم أن يتابعوا مراحل التطور مؤرخين ومدونين، وتولد عن ذلك منظمات ومؤسسات جسدت مواقفها على الأرض.

ثانيها : الإعجاز الذي وقف العالم أمامه وهو القدرة الفلسطينية، إذ كيف لشعب مشرد أن يفكر مجرد التفكير في اجتراح الكيفية التي يواجه بها هذا الاستعمار الاستيطاني الذي أعلن دولته على حساب أصحاب الأرض الحقيقيين، وكيف ينطلق بثورته من أرض غير أرضه، وهذا غير قابل لأن يصدقه عقل، ولكن تحقق وأصبح للشعب الفلسطيني ثورة مسلحة نالت إعجاب عشاق الحرية، ولم يكتفوا بدعمها بل انخرطوا فيها وقاتلوا في صفوفها واستشهدوا وأسروا.

ثالثها : اعتراف العالم بها وبمن تمثل وأن نضال الشعب الفلسطيني نضال عادل وأن حقوقه لا تسقط بالتقادم، وبقيت القرارات المؤكدة على حقه شاهدة على ذلك، ولم يكن هذا إلا بانتزاع الاعتراف ليس عبر الاستجداء ولم يكن عبر وعدٍ كوعد بلفور، بل بفضل دماء الشهداء، والتي سالت غزيرة سواء على أيدي الأشقاء أم الأعداء، وهذا عزز من القدرة على كسب المؤيدين وتوسيع دائرة المساندة والإمداد والمشاركة.

رابعها : دعم حركات التحرر العالمية : فرغم انشغال الفلسطينيين بمعركتهم في مواجهة أقوى جيوش العالم وأشدهم بطشاً وتقتيلاً وتدميراً واغتيالاً، إلاّ أن هذه الحركات وجدت في الثورة الفلسطينية الملاذ والدعم بأشكاله  وأنطلق ثوارها مستمدين عنادهم وتفاؤلهم بالنصر على أعدائهم وتحقق لهم ذلك.

خامسها : الحروب المتلاحقة ومطاردة الثوار من خطوط المواجهة من غير الأراضي الفلسطينية في مؤامرة شاركت فيها قوى الشر، ليجد المقاتلون أنفسهم خارج حدود وخطوط المواجهة مشتتين من جديد كشتات الشعب الفلسطيني، حيث وقف العالم متفرجاً ومنتظراً ماذا سيفعل الفلسطينيون؟ أيسدل الستار وإلى الأبد على القضية ويحيى البديل من سياسات الإلحاق، والذوبان، ورفع الرايات البيضاء، والتسليم للصهاينة بالأرض والحقوق التاريخية؟ أم ماذا؟ إن المعطيات كافة تصب في ذلك . وبعدها هنيئاً لإسرائيل، ولمن اعتبر أن النضال الفلسطيني يشكل إحراجاً لهم أمام شعوبهم.

سادسها : الإعجاز في القدرة على المحافظة على الذات من خلال إعادة التنظيم والتسليح، والاستعداد لهجوم السلام من جهة ، والانطلاقة الجديدة وهذه المرة من الأرض المحتلة وهذا ما أعلن عنه انتفاضة الشعب الفلسطيني، وهي كلمة لم يجد علماء اللغة في العالم اسماً لها بأي لغة إلا اللغة الفلسطينية فأبقوا على اسمها.

سابعها : بداية التسليم بالحقوق للفلسطينيين رغماً عن أنف القوى العظمى صانعة الكيان الصهيوني  وجاحدة لحقوق شعبنا، ولكن ليس عبر ممثلين مستقلين بل عبر وفد عربي في مؤتمر مدريد للسلام عام 1991م.

ولئن كان الأمر كذلك في بدايته إلاّ أن حنكة القيادة الفلسطينية بقيادة الرئيس الراحل استطاعت أن تخرج من العباءة وتجلس على طاولة أعدت لممثلي الشعب الفلسطيني على قدم المساواة بممثلي دول العالم كافة .

ثامنها : اتفاقية أوسلو : لئن عاب البعض على الاتفاقية ، حيث لم تأت على إعادة الشعب الفلسطيني إلى أرضه حسب رأيهم إلا أنها اتفاقية مبادئ. ثبتت أن القيادة الفلسطينية تمثل شعباً خارج وداخل وطنه وأن لهذا الشعب حقوقاً، وتضمنت الاتفاقية إحياء قرارات الشرعية الدولية ذات العلاقة بالقضية الفلسطينية.

تاسعها : القدرة على الإعلان عن قيام وتشكيل أول سلطة وطنية فلسطينية تمكنت من العودة لأرض الوطن عسكريين وسياسيين.

عاشرها : ممارسة الشعب الفلسطيني حقه في الانتخابات الرئاسية والتشريعية بطريقة حرة ونزيهة وهي تمثل السيادة على الأرض ، واعتراف العالم بها إلى جانب اعترافهم بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً وحيداً لشعبنا في أماكن تواجده، أي أن السلطة لم تأت على حساب المنظمة، وأصبح للشعب الفلسطيني نظام أساسي يمثل الدستور في الدول الأخرى.

أمام هذه الانتصارات المتلاحقة لم تتوقف عمليات الجيش الإسرائيلي من إعادة احتلال مناطق السلطة التي أجليت عنها وتسبب ذلك في الانتفاضة الثانية، وكان هدف إسرائيل عدم الدخول في مرحلة الحل النهائي والإبقاء على المرحلة الانتقالية، وظناً منهم أن اغتيال الرئيس ياسر عرفات "رحمه الله" سيعيد القضية إلى مربعها الأول، وسيفقد الفلسطينيون ما تحقق لهم من مكاسب على الأصعدة كافة، واستمرت في الخطوات أحادية الجانب المحظور الإقدام عليها، وتمثل ذلك في: تقطيع أوصال الوطن وبناء مئات آلاف الوحدات السكنية على أراضي السلطة متزامناً مع بناء جدار الفصل العنصري، وتهويد القدس وطرد السكان والاستيلاء على الأراضي الزراعية، واحتلال مصادر المياه، واشتراط التفاوض في ظل كل ذلك لإضفاء الشرعية على ممارساتهم كافة، مع إرغام الفلسطينيين على الاعتراف بيهودية الدولة الإسرائيلية مما يمكنهم من طرد شعبنا من داخل وطنه ليجد مليون ونصف مليون فلسطيني خارج أرضهم يضافون لجموع المهجرين.

إن النضال السياسي وحشد الأصدقاء وتوالي اعتراف دول العالم بحق الفلسطينيين في دولة، هو الهجوم الفلسطيني الذي شكل نقلة نوعية وخطوة كبرى لاختراق الجدر كافة، ووصل ممثل الشعب الفلسطيني إلى الأمم المتحدة، محملاً بآمال وطموحات وحقوق شعبه، معبراً عن ذلك في خطاب هو الأقوى في تاريخ العالم، والمعيار على نجاحه في ايصال رسالة شعبه فحجم التصفيق الذي أغاظ الإدارة الأمريكية وممثلي الكيان الصهيوني، والذين لم يجدوا بدًّا إلاّ أن يعلنوا موقفهم الرافض للرسالة التي سبق أن قدمها السيد الرئيس، للسيد بان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة بالمطالبة بالاعتراف العالمي بالدولة الفلسطينية.

الخطاب لم يترك شاردة ولا واردة إلا وأتى عليها.

فقد تناول مراحل القضية الفلسطينية، وما تعرض له شعبنا من مظلمة، وحافظ على أن لا يثير حفيظة العالم المنحاز لإسرائيل بقوله: نريد أن نرى أطفالنا والأطفال الإسرائيليين، وشعبنا والشعب الإسرائيلي يعيشون في دولتين متجاورتين في أمن مكفول لهما.

ولئن الإدارة الأمريكية حذرت السيد الرئيس من هذه الخطوة باستخدام حق النقض من جهة، وبقطع المساعدات من جهة أخرى، وبتأثير على أعضاء مجلس الأمن بعدم التصويت لصالح طلب الفلسطينيين، حتى لا تضطر إلى استخدام حق النقض مما يوقعها في إحراج مع أصدقائها العرب والأجانب، وخشية أن يترتب عليها ما تحسب له الإدارة الأمريكية حساباً، خاصة وأن المنطقة العربية تشهد ثورات لا تعرف أمريكا وجهتها وليست قادرة على السيطرة عليها وتوجيهها لمصلحتها.

وحاولت بعض الدول إنقاذاً لأمريكا وإعفاءها من هذا الإحراج بالإعلان عن دولة فلسطينية كعضو مراقب، ورغم أنه الحد الأدنى، إلا أنه يعطي الفلسطينيين الحق في التمتع بحق اللجوء إلى منظمة العدل العليا لملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين، وهذا ما تخشاه إسرائيل.

إن الاستخلاصات مما تقدم تشكل ثقافة للعالم، وعلماً جديداً لم يكن العالم يلم به، وأن السياسة دخلت في كل بيت وأن البحث فيما كان غائباً عن العالم أصبح هدفاً لكل من لم يكن يشتغل بالسياسة.

إنها عظمة هذا الشعب، وعبقرية قيادته، وإصرارها على التمسك بالحقوق غير القابلة للتصرفإنه عمل ينهي آخر استعمار في العالم لآخر شعب مستعمر.

إنه عصر الشعب الفلسطيني الذي على قياداته بأطيافها السياسية أن تنظر بعين الحرص على القضية  وأن تتوجه لرص الصفوف ورأب الصدع والإقدام على المصالحة الوطنية، وتنفيذ ما جاء بها لنستعيد مكانتنا ، ونعيد إعمار ما دمرت الحرب الأخيرة، ونفرض احترامنا على العالم في الإبقاء على حقنا في إقامة دولتنا الفلسطينية بعاصمتها القدس دون الإخلال والإجحاف بأي من حقوق شعبنا أكدت عليها قرارات الشرعية الدولية.

ولتصدق المقولة أن الشعب الفلسطيني مدرسة تحتذى.