يمكن للتاريخ أن يكون عرضة للتزوير، لأنّ كثيرين يملكون التجرؤ عليه، ولأنّ كثيرين يعتقدون أنه من الممكن إعادة تركيب التاريخ بما يخدم غاياتهم في الحاضر.. وقد يجري تقبل التزوير على أنه حقائق منتهية، ولكن لبعض الوقت، فالحقيقة تملك خاصية البروز مجددًا مهما كان حجم الركام الذي يلقى عليها لكي تطمس.

الزوبعة التي أثارتها الوثائق العثمانية، التي زودت بها تركيا السلطة الوطنية الفلسطينية، لم تلق الاهتمام الإعلامي العربي، كما في الإعلام العبري، الذي اعتبرها "وثائق تساعد الفلسطينيين على إثبات أحقيتهم بأراض تحتلها اسرائيل".. وتزودهم بمستندات تدعم موقفهم القانوني، في المحكمة الجنائية الدولية، وكون الوثائق تتعلق بأراض في القدس والضفة، ويسعى الاحتلال لضمها لأراضي "إسرائيل". ويرون أن" قضية الوثائق يمكنها زعزعة سوق العقارات في إسرائيل".

عشرات الآلاف من الوثائق التي سلمت للسلطة الوطنية يفترض تضمنها أملاك وقف الطائفة الأرثوذكسية، وهي الأكبر والأكثر اتساعا، بين أملاك الأوقاف الدينية، التي وضع يده عليها الإكليروس اليوناني، بعد حصوله على امتيازات كبيرة، في زمن السلطان سليم الأول.. ولاحقا تم تعيين "البطريرك جرمانوس" اليوناني، كأول بطريرك على رأس الكنيسة الأرثوذكسية، 1505/ 1579". وكانت بداية التسلط على الكنيسة العربية.

نضال الطائفة الأرثوذكسية في فلسطين قديم، بانتفاضتهم الأولى عام 1875، وفشلت الانتفاضة بسبب الدعم العثماني للإكليروس اليوناني، وتم إبعاد وإقصاء رجال الدين العرب، عن المناصب العليا والرئيسية في البطريركية.. لكن نضال الطائفة استمر، وكانت على وشك كسب القضية سنة 1948.. لكن النكبة شملت الوطن بأكمله.. فهل يدعم الأرشيف العثماني، عملية وقف تصرف الإكليروس اليوناني في أملاك الوقف الأرثوذكسي لصالح الاحتلال، في المحكمة الجنائية الدولية؟ فالصراع ليس دينيا، بل صراع وطني وسياسي، وهو قضية أرض ووطن!

ولا تقل أهمية تلك الوثائق، عن وثائق أرشيف الأراضي الفلسطينية التي احتلت عام 1948، وبضمنها الأملاك التي وهبها العثمانيون- كامتيازات لشخصيات عربية قامت بتسريبها لليهود، وهي في معظمها أسماء عائلات عربية معروفة. وهذا ما يدحض أيضا تهمة بيع الفلسطيني لأرضه، فالقانون الفلسطيني، كان يبيح بيع الأراضي للعرب، ويمنع بيعها لليهود، بعد انكشاف المخطط الصهيوني، للاستيلاء على فلسطين. وثائق دائرة الطابو، تحتل أهمية كبرى، وتفتح جبهة مواجهة قانونية، لا يعيرها كثيرون تلك الأهمية، كما يفعل المغتصب.

الموقف العادل للمحكمة الجنائية الدولية، سوف يفتح جبهة مواجهة إضافية وجديدة مع الاحتلال، ستكون حرب وثائق ومناظرات قضائية، في المحافل الدولية.

مطلوب الآن، إنشاء مركز للدراسات، على مثال مركز الدراسات الفلسطينية في بيروت، تضم خبراء واختصاصيين، تقوم على دراسة الوثائق وتصنيفها والإفادة منها، والاحتفاظ بنسخة عنها في مكان لا تطاله يد الاحتلال، وفي أيد أمينة تحفظ هذا الكنز.

وفي معرض حرب الوثائق، يمكن الإفادة أيضا، من وثائق الأرشيف الإسرائيلي، التي أطلق سراحها في ثمانينيات القرن الماضي، ونتج عنها ظهور طبقة ما سمي بالمؤرخين الجدد الإسرائيليين. ولعب وجود غالبيتهم في الغرب، دورا كبيرا في اعتمادهم الموضوعية التاريخية، ومنحهم وضوح الرؤية.. ومنهم المؤرخ آلان بابيه، صاحب كتاب "التطهير العرقي في فلسطين". وتوم سيغف وبني موريس، الذي دوّن رواية تهجير الفلسطينيين القسري عام 48.. وفيها توثيق للمجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية للاستيلاء على الأرض، هذا المسلسل الذي ما زال قائما حتى اليوم، من قتل وتدمير بيوت وعمليات إجلاء بالجملة.. ولا يتورع نتنياهو عن التصريح بضم منطقة الأغوار وشمال البحر الميت.

الدبلوماسية الفلسطينية التي حققت الكثير من الإنجازات على الصعيد الدولي، تقع على كاهلها مواجهة شرسة، تتطلب اليقظة والفطنة والتحضير، إضافة إلى حشد الطاقات الفلسطينية وما أكثرها! هل بقي لي أن أقول إن جدي لأبي هو ضابط عثماني وكان مسؤولا عن دائرة الطابو في سراي عكا.. وأنه قتل في كمين بين عكا وطبرية، مع ثلاثين تركيا بين ضابط وجندي!