دولة الاستعمار الإسرائيلية تواصل شن حروبها على دور العبادة الإسلامية والمسيحية، لإشعال نيران الحروب الدينية بهدف حرف جوهر الصراع من سياسي إلى ديني. فلم توقف حروبها ضد المسجد الأقصى على الصعد المختلفة، وما زالت تواصل فرض أجندتها الإرهابية ومن الزاوية الدينية لفرض التقاسم الزماني والمكاني، كمقدمة لتدمير المسجد وبناء ما يسمى الهيكل الثالث على أنقاضه. وبذات القدر وبأساليب إجرامية أخرى واصلت دولة الإرهاب الإسرائيلية المنظم هجماتها وحروبها على الكنائس والأديرة المسيحية، فاعتدت على العديد منها عبر عملية كسر الأبواب، وتخريب داخل أروقتها، وكتابة الشعارات العنصرية المتطرفة، وآخرها ملاحقة الكنائس والمباني التابعة لها بفرض الضرائب عليها، لتضييق الخناق عليها، وعلى مؤسساتها التعليمية والكنسية وصولاً لدفع البطاركة والقساوسة والأرشمندريتيين والرهبان لإغلاق أبواب الكنائس أمام المؤمنين من أتباعها.

مع أن المعروف تاريخيًا أن السلطات الدولانية أعفت دور العبادة لمختلف الأديان من الضرائب، بغض النظر عن طبيعة الحكم القائم في هذه الدولة أو تلك. وبالتالي الإرهاب الإسرائيلي الجديد بفرض الضرائب على الكنائس، يشكل خروجاً على الأعراف الدولية الناظمة لعلاقة الدول مع دور العبادة، وفيها استهتار وقح بمشاعر المؤمنين من أتباع الديانة المسيحية من الفلسطينيين وأتباع القوميات والشعوب الأخرى. كما إنها إشهار لسيف الاستبداد الإسرائيلي في وجه القيادات الروحية المسيحية، وفي ذات الوقت إشعال لنيران الحروب الدينية. الأمر الذي أثار ردود فعل فلسطينية وعربية وخاصة أردنية ولبنانية وعالمية تجاه الجريمة العنصرية الجديدة لبلدية نير بركات المستعمر الإسرائيلي، ودفع البطاركة والقساوسة في الكنائس المختلفة خاصة كنيسة القيامة لإغلاق أبوابها أمام المؤمنين، ما أوقع الإسرائيليين في شر أعمالهم وإرهابهم، وعرى ظهورهم وعوراتهم أمام المليارات من إتباع الديانة المسيحية، وجعلهم يراجعون أنفسهم وينزلون عن الشجرة، التي صعدوا على قمتها.

نعم تحت ضغط الشارع الفلسطيني والعربي والعالمي عمومًا ورجال الدين المسيحي من مختلف الطوائف والمذاهب تراجعت إسرائيل عن قرارها مؤقتًا، وشكلت لجنة لدراسة التداعيات الناجمة عن قرارها الإرهابي الغبي، لأن القائمين على القرار لم يدركوا جيداً الأخطار الناجمة عنه سياسيًا ودينيًا واقتصاديًا وسياحيًا. ونتاج قصر نظرهم، وعدوانيتهم تجاه إتباع الديانة المسيحية، ركزوا على الفائدة النفعية الضيقة، المتعلقة بجمع عشرات الملايين من الضرائب، وتجاهلوا أو أسقطوا من حساباتهم ردة الفعل المشروعة لرجال الدين المسيحيين ولكل أبناء الشعب الفلسطيني وقيادته السياسية، واعتقدوا أنهم سيستسلمون لمشيئتهم، ويذعنون لإملاءات قرار بلدية القدس الاستعمارية، فجاء إغلاق أبواب كنيسة القيامة رداً غير متوقع، وهو ما يعني فقدان دولة الاستعمار الإسرائيلية لمئات الملايين من الدولارات سنويًا نتاج السياحة الدينية، ليس هذا فحسب، بل إن القرار الإسرائيلي سينعكس سلبًا على علاقة إتباع الكنائس المختلفة مع إسرائيل في دول العالم المختلفة وخاصة في دول المركز الأميركي والأوروبي. هذا بالإضافة لردود الفعل السياسية المتوالدة من تلك السياسة الرعناء، وكما أشير آنفا سيفاقم من حدة الصراع الديني عالمياً، وليس في النطاق الفلسطيني الإسرائيلي.

التراجع الإسرائيلي عن القرار، هو تراجع مؤقت، وليس تراجعًا نهائيًا. لأن العقلية الإسرائيلية الاستعمارية المسكونة بالنزعات الإرهابية، وبالحروب ضد " الأغيار" من الفلسطينيين من أتباع الديانات والمعتقدات الأخرى، وبحكم الغرور والغطرسة، وتساوق الإدارة الأميركية معها وخاصة إتباع التيار المتطرف من الكنيسة الإنجليكانية، الذين يحاولون بكل الوسائل الإجرامية تسريع حرب يأجوج ومأجوج الدينية، فإنهم سيعودون لمتابعة فرض القرار على الكنائس، ولو كانت البلدية ومعها حكومة الفاسد نتنياهو معنية بطي ملف الضرائب، لألغت القرار من أساسه، ولم تحله للدراسة من قبل لجنة مختصة.

وأيا كانت طبيعة التوجه الإسرائيلي اللاحق بشأن قرار فرض الضرائب على الكنائس، فإنها في كل الأحوال أماطت اللثام عن وجهها القبيح، وأكدت بما لا يدع مجالاً للشك، إنها دولة مقامرة، وتعمل بشكل مدروس لتأجيج فتيل الحروب الدينية في المنطقة، ولكنها لن تتمكن من حرف الأنظار عن جوهر الصراع السياسي مع الشعب العربي الفلسطيني. ومعركة الكنائس لا تختلف عن معركة المسجد الأقصى، بل هي معارك وطنية بامتياز، ولن تكتسي بالطابع الديني، حتى وإن حاولت دولة التطهير العرقي الإسرائيلية إلباسها هذا الثوب.