تمر غزة الآن بأصعب مراحل الحرب الوجودية التي تعيشها؛ مرحلة تتجاوز فيها الضغط العسكري لتصل إلى مرحلة تنفيذ خطط ورؤى تهدف إلى الضغط الإنساني على المدنيين، عبر إغلاق المعابر، وقطع سبل الحياة الأساسية، من أجل تحقيق أهداف استراتيجية أوّلها التهجير. ووسط هذا الواقع القاسي، يفقد الشعب الفلسطيني الأمل في وقف الحرب أو التخفيف من معاناته، حتى باتت المطالبات لجمهورية مصر بالتدخل أملاً متجدداً للعديد من الفلسطينيين.

وفي الوقت الذي يعتقد فيه الاحتلال أن ما لا يتحقق بالقوة يمكن أن يُحقّق بمزيد من القوة، يظل الفلسطينيون ثابتين في رفضهم للقبول بالتنازلات التي قد تقضي على حقوقهم الوطنية أو تُنهي الكثير من ثوابت قضيتهم. ومع مرور الوقت، تزايدت المطالب بتغيير الوضع، وقد بدأنا نشهد تحولات في الخطاب الفلسطيني. فبعد 7 تشرين الأول/أكتوبر، أصبحنا نطالب بما هو أقل من السابق، فبعد أن كان برنامجنا السياسي أكثر طموحاً، بات الآن يُختزل في أقل المطالب المعيشية، لكن ما ينبغي على العالم أن يدركه هو أن الفلسطينيين لا يريدون سوى العودة إلى أرضهم، وأنهم لا يزالون الضحية في هذه المعادلة. تلك النقطة تحديداً هي التي ناضلنا من أجلها، في الوقت الذي كان فيه الاحتلال يسعى لتشويه صورتنا وتقديم نفسه كضحية عبر آلة إعلامية ضخمة تعمل في خدمة روايته.

وفي السياق ذاته، مخطئ مَن يعتقد أن 7 تشرين الأول/أكتوبر أعاد القضية الفلسطينية إلى الواجهة بصورة استثنائية، لأنها كانت ولا تزال حاضرة وبقوة على طاولة الدبلوماسية، فقد كان الرئيس محمود عباس، في مساعيه، حريصاً على أن يُسمع صوتنا في جميع أنحاء العالم، ليؤكد أن شعبنا هو الشعب المظلوم الذي لا يزال يعيش تحت وطأة الاحتلال والتهجير، ويواجه الموت يوماً بعد يوم بصدور عارية أمام آلة الحرب الإسرائيلية. وعلى الرغم من أن المعركة الدبلوماسية الفلسطينية تحتاج إلى تصعيد مستمر، فإن نتائجها حتى الآن إيجابية إلى حد ما، فقد أكدنا للعالم أن شعبنا يسعى للعيش بسلام في دولته المستقلة، وهو ضحية عقود من التشرد والقتل ومصادرة الحقوق. وهذا الخيار الدبلوماسي، الذي لا يمكننا الاستغناء عنه، أصبح الآن أمام مفترق الطرق مع عودة إسرائيل إلى احتكار دور الضحية في إثر 7 تشرين الأول/أكتوبر.

أمّا وقد أثبت الخيار العسكري فشله في الدفاع عن شعبنا، وأصبح تأثيره السلبي واضحاً عبر الأضرار التي لحقت بالمدنيين الفلسطينيين وبمؤسسات السلطة، بدلاً من أن يكون وسيلة فاعلة في مواجهة الاحتلال، تحوّل إلى عبء إضافي على الشعب الفلسطيني، وهو ما جعل تجميده أمراً ضرورياً. وهذا لا يعني الاستسلام أو التنازل، إنما هو قرار استراتيجي يجسّد فهماً عميقاً للواقع الراهن وللأخطار الوجودية التي نواجهها. مَن يعتقد أن التوقف عن استخدام الخيار العسكري يعني الرضوخ أو الاستسلام فهو مخطئ، لأنه يفتقر إلى رؤية شاملة للقضية الفلسطينية، وتاريخها، وتضحيات شعبها. إذ لا بد من العودة إلى المقاومة الشعبية الشاملة، التي تجسدت في مقاومة الجدار والاستيطان، وكان أحد أبرز رموزها القائد الوطني زياد أبو عين الذي استشهد في 2014 وهو يغرس شجرة زيتون في أرضه. فالمقاومة الشعبية تُمثل إرادة شعب حريص على البقاء في مواجهة آلة الاحتلال. وفي الوقت ذاته، لا بد من التأكيد على أهمية النضال الدبلوماسي، الذي يشكّل أداة رئيسية في تمثيل القضية الفلسطينية في المحافل الدولية، والتأكيد على حقوق شعبنا في الحرية والاستقلال.

لكن ما لا يمكن تجاهله هو أن السلام لا يتحقق بين شعب أعزل وقوة احتلال مسنودة من قوى عالمية وتملك ترسانة من الأسلحة المتطورة. فهذا الواقع يصعّب على الفلسطينيين استمرارهم في مواجهة الاحتلال بالأدوات العسكرية التقليدية، لأن المعركة لم تعد تتمحور حول الأسلحة أو طريقة المواجهة، إنما حول المشروع الوطني الفلسطيني الذي يبدو أكثر هشاشة في هذا الوضع المعقّد. ومن هنا، لا يمكننا القبول بشعارات لا تقود إلى نتائج عملية على الأرض، وخصوصاً إذا كانت هذه الشعارات تُستخدم من أجل تبرير ممارسات العنف ضد المدنيين.

إذ نعيش بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر في مرحلة جديدة من الحروب النفسية والإعلامية التي تحاول تبرير العدوان الإسرائيلي على غزة، لتعود إسرائيل إلى احتكار دور الضحية في الأمم المتحدة وأمام الرأي العام العالمي. وهذا الأمر يضعّف موقفنا الدبلوماسي ويُفقده الزخم الذي كان يحظى به قبل الأحداث. وفي الوقت ذاته، تستمر إسرائيل في استخدام القوة المفرطة بحجة القضاء على الإرهاب، الأمر الذي يؤدي إلى فرض معادلات جديدة تتطلب من الفلسطينيين تقديم تنازلات تُفضي إلى القضاء على حلم إقامة الدولة. وفي هذا السياق، لا يمكننا تجاهل حقيقة أن الشعب الفلسطيني أصبح يواجه حرباً ليست على الأرض فحسب، بل أيضاً على الوعي، إذ تتلاشى آمال الأجيال الشابة في بناء مشروع وطني حقيقي.

وحين تُرسم غزة كوحش، يُصبح تدميرها بطولة. هذا هو الواقع الذي نعيشه اليوم، إذ يتبدل فيه المفهوم الإنساني ويتراجع فيه كل شيء، من التضامن إلى المحاسبة، بغض النظر عن القسوة التي تعيشها غزة، يتم تصويرها من جانب بعض وسائل الإعلام، العربية والغربية على حد سواء، كوحش مرعب يستحق التدمير، في حين أن الحقيقة تؤكد أنها هي الضحية التي تحمل آلامنا جميعاً.

وفي هذا السياق أصبح الإعلام، بما في ذلك بعض القنوات العربية شريكاً في الجريمة، إذ يضخم من قدرات الضحية ويخدع الرأي العام عبر نشر صور لأسلحة وصواريخ لا تملكها سوى الدول العظمى. فكيف يُستدل من هذه الصور على أن غزة تملك قدرات كهذه؟ فما هي إلاّ أداة من أجل تبرير القصف والمجازر التي تُرتكب بحق المدنيين العُزل. إذ تتحول الكلمة إلى سلاح في أيدي القتلة، ويصبح الإعلام شاهداً مزيفاً يساهم في تشويه الحقائق وتبرير القتل.

لكن على الرغم من ذلك، فلابد لنا من التوقف، التفكير، والتساؤل. فهل حقاً كل ما يُقال هو الحقيقة؟ أم أن هناك مَن يعمد إلى تحريف الوقائع وتوجيه الأنظار بعيداً عن الضحية الحقيقية؟ ليس المطلوب منا اليوم أن نتأثر بالصور والفيديوهات التي نراها في وسائل الإعلام، إنما المطلوب أن نطرح الأسئلة الحقيقية. كيف يمكن أن نقبل برواية يشوبها الشك والتضليل؟ كيف يمكن أن ندّعي العجز أمام هذا التلاعب الإعلامي؟.

وهنا تأتي أهمية التصدّي إلى هذه المحاولات من أجل تشويه الحقيقة. فالذي يجب أن يُوصف بالوحشية ليس الشعب الفلسطيني، إنما الاحتلال الذي لا يتوانى عن سحق كل شيء. إن صمت العالم أمام ممارسات الاحتلال، وتواطؤ بعض القوى الدولية، هو الذي يساهم في جعل الحرب المستمرة في غزة عرضاً لأحداث لا أهمية لها على طاولة السياسة العالمية.

فالأوضاع الآن تكشف عن تلاشٍ متزايدٍ للأمل في إقامة دولة فلسطينية، إذ أصبحت التناقضات بين أمل الفلسطينيين في تحقيق دولة مستقلة وأمن إسرائيل، التي تُصر على رفض إقامة هذه الدولة حتى ولو كانت منزوعة السلاح، أكثر وضوحاً. ويشكل هذا التناقض محور الصراع، حتى لو كانت الدولة سلمية وغير مسلحة. وهذا يتجاوز الأسباب الأمنية على أهميتها، ليتحول إلى صراع استراتيجي، إذ يتطلب من الفلسطينيين التفكير في خيارات جديدة توازي قوة المشروع الصهيوني. فإسرائيل تستغل هذا الواقع لصالحها، مستفيدة من دعم قوي في الساحة الدولية، وهو ما يجعل مقاومته في المجال العسكري والسياسي أمراً بالغ الصعوبة.

ومع قراءة هذه المعطيات، تكون الحرب على غزة جزءاً لا يتجزأ من المشروع الصهيوني الذي يسعى لتفريغ الأرض من سكانها الفلسطينيين، وتحقيق حلم العودة لليهود إلى أرض الميعاد. فهذا المشروع، الذي يعتمد على تاريخ طويل من الاضطهاد في المجتمعات الأوروبية، يشكّل محركاً رئيسياً في ديمومة الاحتلال، ولا يمكن مواجهته بالشعارات وحدها. وعلى العرب والفلسطينيين أن يواجهوا هذا المشروع بمشروع قوي ومتكامل ينسجم مع متطلبات المرحلة، ويشمل جميع الأبعاد السياسية والثقافية والعسكرية، ولا يمكن أن يكون السلام حلاً، إلاّ إذا أُرسيت معادلات تضمن الحقوق الفلسطينية في الأمن والاستقلال.

وأخيراً وفي كل حال: إنني أرفض المساومة على دمي ودماء أبناء شعبنا، وخصوصاً المسحوقين والمقهورين في غزة، كما أرفض الغباء السياسي الذي تمارسه بعض الأطراف من دون حسابات أو تقدير للواقع. كل قطرة دم غالية، ولا يمكن أن تظل دماء شعبنا رخيصة في أي حسابات سياسية ضيقة. لا تستنفروا شعبنا الذي لم يعد يمتلك شيئاً سوى كرامته وإيمانه الوطني، وقد بدأ البعض يكفرون بالوطن من أجل لقمة العيش.