منذ نشأتها، دأبت إسرائيل على توظيف الصراعات الداخلية الفلسطينية، لا لمجرد استغلالها اللحظي، بل لتحويلها إلى أدوات استراتيجية تخدم مشروعها الاستيطاني وسياساتها التوسعية، وهو ما يمكن قراءته بوضوح من خلال نظرية "الاستثمار في الخصم".
هذه النظرية، التي تقوم على مبدأ الإبقاء على العدو في حالة ضعف دائم دون القضاء عليه، بهدف استخدامه سياسيًا وأمنيًا، تجسدت بشكل جلي في تعاطي إسرائيل مع حركة حماس، منذ نشأتها في أواخر الثمانينات من القرن الماضي، مرورًا بانقلابها على السلطة الفلسطينية عام 2007، وصولاً إلى لحظة الانقسام الفلسطيني الممتدة حتى اليوم.
- أولاً: النشأة المزدوجة لحماس واستراتيجية "صناعة خصم بديل"
لم تكن إسرائيل بعيدة عن المشهد عند ظهور حركة حماس، بل إن تقارير عديدة– بما فيها وثائق من داخل الإدارة الإسرائيلية– كشفت عن غض الطرف الإسرائيلي، وربما التسهيل في بدايات تشكيل الحركة، كجزء من محاولة إضعاف منظمة التحرير الفلسطينية (م.ت.ف)، التي كانت آنذاك قد بلغت ذروة الاعتراف الدولي كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني.
سعت إسرائيل إلى خلق "خصم بديل" داخل الجسم الفلسطيني، يستند إلى مرجعيات دينية متشددة ومواقف سياسية مناوئة للتسوية السياسية، كوسيلة لتفتيت الوحدة الوطنية الفلسطينية من جهة، وإفشال جهود المجتمع الدولي في إنهاء الصراع وفق حل الدولتين من جهة ثانية.
- ثانيًا: انقلاب حماس في غزة 2007– نقطة مفصلية في الاستثمار الاستراتيجي
شكّل انقلاب حماس على السلطة الوطنية الفلسطينية في قطاع غزة عام 2007 نقطة تحول مفصلية في المشروع الاستثماري الإسرائيلي في الخصم الفلسطيني.
لقد قسّم هذا الانقلاب الجغرافيا الفلسطينية، وعمّق الانقسام السياسي والمؤسساتي، وخلق واقعًا ملائمًا لإسرائيل، يمكن تلخيص أبعاده في ما يلي:
1. ضرب وحدة القرار الوطني الفلسطيني، فبانقسام الضفة عن غزة، ضعفت القدرة التفاوضية الفلسطينية، وفقد الموقف الفلسطيني المشترك زخمه أمام المجتمع الدولي، ما أتاح لإسرائيل الادعاء بعدم وجود "شريك فلسطيني موحد" يمكن التفاوض معه.
2. تبرير تعطيل الاتفاقيات الدولية: استخدمت إسرائيل انقلاب حماس مبررًا لوقف التزاماتها تجاه الاتفاقيات الموقعة مع منظمة التحرير، لا سيما اتفاق أوسلو، واعتبرت أن سيطرة "حركة إرهابية"– بحسب تصنيفها– على غزة يعفيها من الاستحقاقات السياسية.
3. تعزيز الرواية الأمنية داخليًا وخارجيًا: شكل وجود حماس، ومواقفها الرافضة للاعتراف بإسرائيل، ذريعة مثالية لتسويق الرواية الإسرائيلية في الغرب حول "التهديد الدائم"، مما برر تصعيد العمليات العسكرية المتكررة على القطاع، وتحويل إسرائيل إلى ضحية في نظر الرأي العام الغربي.
4. تأبيد الحصار وتدمير غزة تدريجيًا وصولاً إلى التدمير الكامل حاليًا: منذ سيطرة حماس على غزة، فرضت إسرائيل حصارًا شاملاً على القطاع، دعمته بموجات متكررة من العدوان العسكري، أسفر عن تدمير البنية التحتية للقطاع وتكبيد الفلسطينيين خسائر بشرية ومادية جسيمة، دون أن يسعى الاحتلال لحسم عسكري نهائي، في تكريس واضح لمنطق "الإضعاف المدروس" لا الإنهاء الكامل للعدو.
- ثالثًا: تغطية الاستيطان وتوسيع رقعة السيطرة
بفضل الانقسام، ركزت إسرائيل جهودها في الضفة الغربية، حيث ضاعفت من وتيرة التوسع الاستيطاني، وصادرت الأراضي، وشرعنت البؤر الاستيطانية، في ظل انشغال الفلسطينيين بصراع داخلي لا طائل منه. كما وظفت ذريعة "الخطر من غزة" لتعزيز تواجدها الأمني والعسكري في الضفة، وبناء جدار الفصل العنصري، وتمرير قوانين يهودية الدولة، ما مهد فعليًا لفرض واقع الدولة الواحدة بواقع عنصري، يقوض مشروع الدولة الفلسطينية المستقلة.
- رابعًا: الاستثمار في الانقسام كأداة تهجير قسري
أدى الانقسام، واستمرار معاناة قطاع غزة بفعل الحصار والفقر والبطالة، إلى موجات تهجير متصاعدة، حيث دفعت الظروف القاهرة أعدادًا متزايدة من الشباب والعائلات إلى الهجرة القسرية، ما يخدم الرؤية الصهيونية القائمة على تفريغ الأرض من سكانها الأصليين، وتغذت هذه السياسة من استمرار سيطرة حماس على القطاع، وغياب أفق سياسي وطني جامع، وانعدام الثقة بالحلول.
- خامسًا: فرض حلول تُجهض الحقوق الوطنية
إن الهدف النهائي لهذا الاستثمار الإسرائيلي في الخصم الداخلي، يتمثل في خلق بيئة فلسطينية عاجزة عن فرض شروطها أو الحفاظ على حقوقها الوطنية، لتصبح فريسة سهلة لما يُسمى بـ"الحلول الاقتصادية" أو "السلام الإقليمي"، أو حتى مشاريع "الكونفدرالية" مع الأردن، وهي جميعها صيغ تهدف لتصفية القضية الفلسطينية وتكريس الواقع الاحتلالي.
ختامًا ليس من المبالغة القول إن إسرائيل لم تكن لتتمكن من تحقيق هذا القدر من السيطرة والتمدد، لولا استثمارها الدقيق والمدروس في الانقسام الفلسطيني، وعلى وجه التحديد في حركة حماس وسلوكها السياسي.
لقد حوّلت إسرائيل هذا الخصم إلى جزء من منظومة تبرير الاحتلال، ومسوغاته الأمنية والدولية، دون أن تقدم على إنهائه، لأنها ببساطة تستفيد من بقائه.
وهنا يكمن التحدي الأكبر للفلسطينيين: أن يدركوا أن الوحدة الوطنية ليست خيارًا عاطفيًا أو ظرفيًا، بل هي المعركة الحقيقية ضد المشروع الاستعماري العنصري الإحلالي اليهودي الصهيوني، وضد محاولاته لتحويل الشعب الفلسطيني إلى مجرد ورقة في يد المحتل.
فلا مقاومة حقيقية بدون وحدة وطنية حقيقية وشاملة، ولا تحرر دون مشروع وطني جامع يُعيد توجيه البوصلة نحو مواجهة الاحتلال، لا تغذية الانقسام الذي لا يخدم إلا عدونا الوحيد: إسرائيل.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها