تبقى الأرض الفلسطينية أرضَ الأنبياء، والرسالات، والمعراج والمقدسات عصيَّةً على الخضوع والانحناء، فترابُها المجبولُ بدماء الصحابةِ وعنفوان القسَّام، وكبرياء عبدالقادر في قدس الحسيني، وتجلي أرواح جمجوم والزير وحجازي صُنَّاع هبَّة البراق، هذا التراب المبارك هُو الحصن الحصين لشعب فلسطين، لأنَّنا حراسُ الأقصى والقيامة، والصخرة والميلاد. نحن حُماةُ القداسة والطهارة، فقد استَودَعَنا الرحمنُ هُنا بين ثنايا أرض المحشر والمنشر. ورغم الجراح النازفة، وقوافل الشهداء، والبيوت المدمَّرة، وبكاء الأمهات والأرامل، ولملمة شظايا الموت من الأزقة والشوارع، رغم كل المآسي والكوارث والأحزان، ونشر الظلم الأسود كالظلام تبرز في سماء بلادنا، وعلى رباها أقمارٌ مضيئةٌ ينبعثُ نورها كأنَّها شموسُ الحق تجتاحُ ظلمات الباطل.
شهداؤنا وأحياؤنا هُم أصحابُ رسالات تحمل معاني الخلود المتوقِّد في السماء، وأنوار الحق تشرقُ من جوفِ الزنازين، ومصانع التعذيب.
فالشهيد زياد أبو عين زارعُ نبتة الزيتون قتلوه بقبضة الحقد خنقًا فهم صُنّاع الموت، رحل زياد إلى العليِّ الأعلى لكنه ظلَّ قمرًا يسطعُ في سماء الحُريّة. وامتدَّت أيديهم المشبعة بسموم النازية ليخطفوا الطفل محمد حسين أبو خضير من جوار المسجد في القدس، ليتفنَّنوا في قتله هناك قرب قرية دير ياسين، فيحرقونه أولاً ثُمَّ يقتلونه، وهذه فلسفة جديدة في تعذيب الأطفال لنشر الرعب والحقد، وزرع الحزن الأبدي في أعماق والديه. رحل شهيدًا لكنَّه ما زال يُحلِّق بروحه فوق ربى القدس قمرًا يضيء الطريقَ لجيلٍ يتهيَّأ من أجل حمل الأمانة.
وفي شمال الضّفة، أحفادُ النازية، أبناء نتنياهو يحرقون منزل أسرة الدوابشة بمَن فيه من خلق الله، ناموا مطمئنين، واستيقظوا يلفهم جحيمٌ من نيران أشعلتها عصابةٌ من بني صهيون وهم يُعربدون، احترقوا ورحلوا إلاَّ طفلاً ابن أربع سنوات نجا بعد أن أكلت النيرانُ من جسده، لكنَّه ظلَّ شاهدًا على جريمة العصر التي حملها في مخيّلته إلى الأبد. أمَّا أسرته التي تربَّى في أحضانها فقد حلَّقت أرواحهم أقمارًا تطلُّ على الأرض المباركة زارعةً الأملَ في نفوس الأحياء.
جريمة قتل الشاب الأسير ياسين عمر السراديح نفَّذها ثمانية جنود صهاينة، اعتقلوه، أشبعوه ضربًا وحقدًا، استفردوا به، وجدوه لا يزال حيًّا يلتقط ما تبقّى في صدره من أنفاس، فأطلقوا الرصاص في صدره، وهو لا يملك السلاح، وإنّما كان يملك إرادة التمسُّك بتراب الأرض، وفارق الحياة شهيدًا يُنير دربَ الأجيال.
ولا نستطيع إلاَّ أن نقف بكلِّ إكبارٍ أمام عنفوان وصبر الأسيرة إسراء الجعابيص على العذاب، وعتمة المعتقلات، ووحشة الزنازين، وهي في الزنزانة كانت تستذكر زوجها وطفلَها، فتزداد صلابةً وإشراقًا.
ونحن نستعرض الأقمار المضيئة في سماء مسيرتنا المقدَّسة، لا يسعنا إلاَّ أن نتذكَّر (برقين) و(اليامون) في جنين عندما استشهد أحمد إسماعيل جرار ابن "فتح" مُدافعًا عن ابن عمه أحمد نصر جرار ابن حركة "حماس"، وأحمد أبو عبيد على الضفة الأخرى يتصدَّى للمستوطنين المسلَّحين، واستُشهد الثلاثة، تاركين للجيل الناشئ قصة فداء وتضحية حروفها من نور.
وفي خليل الرحمن كان الجنون الصهيوني العنصري، الذي ترجَم الحقد الدفين على أبناء شعبنا رصاصًا حيًّا عصف بأجساد المدنيين المعتصمين فكان الجرحى، وكان الشهيد الشاب حمزة يوسف زماعرة بعد أن نخل الرصاصُ جسده. وفي نابلس ارتقى الشهيد خالد وليد تايه برصاص الاحتلال، وحوله عشرات الجرحى تنزف دماؤهم فتلتهبُ النفوس حماسةً ليومٍ تنتصرُ فيه الدماء الزّكيةُ على قتلة الأنبياء، وأعداء الحياة.
ومن غزّة الأبيّة أشرقت هامةٌ كلّها عنفوان، قامةٌ بلا قدمين، لكنَّ اليدين كانتا تخاطبان السماء، وتتوعَّدان الأعداء، ولسانٌ لم يصمت عن التهديد، والوعيد، والإصرار، إنَّه الشهيد إبراهيم أبو ثريا، ارتقى تحرسه الملائكة بثيابها البيضاء، وعلى حدود غزة جنودٌ مذعورون من رؤية الإعجاز والكبرياء، يتجسَّد في أرقى حالات التحدي، رجلٌ بلا قدمين يتحدى الدبابات والجنود المدجَّجين.
وفي الختام، فإنَّ العهد هو العهد، والعهدُ تولدُ من جديد في زمن الثورة والتحدّي، تتقدَّم الصفوفَ طفلةً في قلبها مُضغةٌ من نسيج دلال المغربي، ونبضةٌ من نبضات قلب فاطمة برناوي، لتجدِّد العهد لكلِّ الثوار، والأبطال، لكلِّ الشهداء والأسرى والجرحى، تجدَّد العهد لياسر عرفات، وخليل الوزير، وأبو إياد، وباسمهم جميعًا تتقدَّم لتصفع الكبرياء الصهيوني المدجج بالسلاح، صفعةَ الفخر والكبرياء الفلسطيني، ويهتزُّ كيان نتنياهو ومعه كلُّ جوقة الإجرام. ويعجز الجلادُ، وظلمةُ الزنزانة، وفنون التعذيب عن تركيع عهد التميمي، رغم صغرها علَّمتهم درسًاً قاسيًا جوهره أنَّ فلسطين منذ ولادتها قبل خمسة آلاف سنة لم تركع، ولم تزل عملاقةً تعانقُ السماء، علَّمتهم أنَّ هذا الجيلَ الذي رضع حليب الثورة من عنفوان ورمزية ياسر عرفات، وعَشِقَ حُبَّ الوطن، وصلابةَ الموقف، والعناد والإصرار من مسيرة القائد محمود عبّاس.
مسيرتُنا طويلة، والطريقُ صعبةٌ لكنَّ أقمارنا من شهدائنا وأحيائنا كفيلون بإنارة الدَّرب لنا حتى نُؤدّي الأمانة.
عضو المجلس الثوري لحركة "فتح"
الحاج رفعت شناعة
26/2/2018
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها