إياد مسعود
كشفت الأزمة في سوريا مدى هشاشة المجتمع المدني الفلسطيني، خاصة إذا ما قورن بمثيله في لبنان.
في لبنان لعبت الأعمال العدوانية الإسرائيلية، والحروب الداخلية، ضد مخيمات اللاجئين، دوراً مهماً في دفع هؤلاء نحو بناء مؤسساتهم المدنية بوظائفها الإنتاجية والاجتماعية والطبية والثقافية المتنوعة.
ولعبت منظمة التحرير الفلسطينية وباقي الفصائل وإن بوتائر مختلفة، الدور الأهم في بناء هذه المؤسسات، التي شكلت عبر التراكم حجر الأساس لبناء وتطوير مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني، وتعزيز قدراته على المبادرة والفعل، مما خلق شكلاً من أشكال الازدهار المعيشي في هذه المخيمات، خاصة في ظل البحبوحة التي كانت تعيشها منظمة التحرير وفصائلها ومؤسساتها المختلفة.
لقد امتصت التشكلات العسكرية للفصائل والمنظمة حجماً كبيراً من اليد العاملة الفلسطينية، وبنت إلى جانب تشكيلاتها هذه العديد من المؤسسات المختلفة، الاجتماعية (مؤسسة رعاية أسر الشهداء والجرحى والأسرى والمفقودين)، والصحية كالهلال الأحمر الفلسطيني، ودائرة التحصينات التي أسهمت في تحصين المخيمات وبناء مئات الملاجئ فيها اتقاءً لخطر الطيران والقصف المدفعي، كذلك نشأت مؤسسات ثقافية وإعلامية عديدة، وإلى جانب هذا أنشأت المنظمات الفلسطينية مؤسساتها الخاصة: الإنتاجية (صامد وعامل)، والاجتماعية والصحية، فانتشرت في المخيمات تتنافس إيجاباً في خدمة الناس، وسدت العديد من ثغرات وتقصيرات وكالة الغوث (الأونروا) والدولة اللبنانية، وأصبحت البطالة في المخيمات ظاهرة نادرة الوجود، خاصة وأن هذا الكم الهائل من المؤسسات امتص الآلاف من اليد العاملة، وبمرتبات مالية تنافس أحياناً في مستواها الشركات الكبيرة في البلاد.
لعبت هذه المؤسسات دوراً في السلم، عبر تقديم الخدمات المعتادة، وفي الحرب عبر رعاية الجرحى وإيواء النازحين والمهجرين، وتأمين مستلزمات استقرارهم من احتياجات منزلية (أغطية، فرش، أدوات مطبخ) وأغذية، ما خلق في صفوف الفلسطينيين آليات للعمل الاجتماعي المتقدم، وعندما غادرت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية لبنان، وأعادت صياغة وجودها فيه، بقيت المؤسسات الاجتماعية والإغاثية تمارس دورها في الميادين المختلفة، بل تعزز مثل هذا الدور، خاصة في ظل تدفق أموال المانحين على هذه المؤسسات، ومدى اعتماد الحالة الشعبية على ما تقدمه هذه المؤسسات من خدمات، لذلك لا غرابة في القول إن مبادرات هذه المؤسسات لرعاية النازحين الفلسطينيين من سوريا؛ تقدمت على مبادرات المجتمع المدني الفلسطيني في سوريا وتجاوزتها، وأكد لنا العديد من العائلات النازحة حين زرناها في بعض المخيمات الفلسطينية في لبنان؛ أن حجم المساعدات التي تقدم لها من قبل المؤسسات الفلسطينية يتحاوز أضعاف ما كانت تتلقاه من مساعدات على الأرض السورية.
في سوريا افتقدت الحالة الفلسطينية إلى المؤسسات التي بنيت في المخيمات في لبنان، صحيح أن مؤسسة الشؤون الاجتماعية الخاصة برعاية أسر الشهداء، وكذلك مؤسسة الهلال الأحمر الفلسطيني، لهما الدور الشبيه نفسه، إلى حد ما للدور الذي للمؤسستين في لبنان، لكن الصحيح أيضاً أن خصوصية الوضع في سوريا أسهمت في صياغة تجربة مغايرة لتجربة لبنان.
ففي سوريا يعامل الفلسطيني كما يعامل السوري من حيث الحقوق المدنية والاجتماعية، ويتلقى خدمات حكومية مهمة في ميادين التعليم والصحة والشؤون الاجتماعية، فضلاً عن الحق في العمل بمن فيهم أصحاب المهن الحرة كالأطباء والمحامين والصيادلة وغيرهم، وهو أمر أوجد حالة من الاعتماد على خدمات الدولة التي كان لها دور حلت فيه محل القطاع الخاص في بعض المجالات الاقتصادية (تجارة التجزئة وتوزيع المواد الغذائية المدعومة في المؤسسات الاستهلاكية التابعة لوزارة الاقتصاد).
أما العلاقة بين الشارع الفلسطيني ووكالة الغوث (الأونروا)؛ فكانت تتم عبر الهيئة العامة لشؤون اللاجئين الفلسطينيين، وبالتالي افتقد الشارع الفلسطيني آليات التحرك المستقل للدفاع عن مصالحه لدى وكالة الغوث، وحلت محله في ذلك "الهيئة" التي يتولاها موظف كبير مقرب على الدوام من النظام (يتولاها حالياً عضو في القيادة القطرية للفرع الفلسطيني لحزب البعث الحاكم).
وحتى في قضايا التعليم؛ فقد توفرت للفلسطيني فرص التعليم المجاني في مدارس الوكالة (حتى نهاية المرحلة الإعدادية)، ينتقل بعدها إلى الاستفادة من التعليم المجاني في مدارس الدولة السورية وجامعاتها.
أي بتعبير آخر؛ وفي مجال المقارنة، يمكن القول إنه في لبنان، وبسبب من طبيعة الوضع الداخلي اللبناني، اتبع الفلسطينيون الآليات ذاتها، فأصبحت لهم مؤسساتهم الاجتماعية الخاصة، ليس كطائفة ولكن كتجمع بشري باتت له صفة التقوقع الطائفي القائم في البلاد.
أما في سوريا وبسبب من قوة الدولة وتماسك مؤسساتها، ودورها المركزي في إدارة الشأن اليومي للمواطن (بما في ذلك تأمين الخبز اليومي في أفران تابعة لها) غابت الحاجة لدى المجتمع السوري، كما لدى المجتمع الفلسطيني، لبناء مؤسسات خاصة، تعوض تقصيرات الدولة، عزّز هذا الأمر صعوبة بناء مؤسسة اجتماعية أهلية مستقلة عن الدولة بمؤسساتها المختلفة، الإدارية أو الأمنية، فعلى سبيل المثال لا يمكن بناء مؤسسة اجتماعية فلسطينية إلا بإذن خاص من الهيئة العامة لشؤون اللاجئين، فهي صاحبة الصلاحية في منح رخص العمل للمؤسسات الفلسطينية العاملة في المخيمات، وهي بالتالي صاحبة الصلاحية في سحب هذه الرخصة متى شاءت ومتى رأت هي لزوم ذلك.
لذلك يعاني اللاجئون الفلسطينيون في سوريا في الوقت الراهن؛ من صعوبات العيش بخاصة في ظل ما تعرضوا له من تهجير، وفي الوقت الذي تنشط في صفوف النازحين منهم إلى لبنان عشرات المؤسسات الاجتماعية، تقتصر المساعدات للاجئين في سوريا على مؤسستين اثنتين هما: وكالة الغوث (التي تعتمد بشكل كامل على المانحين، لذلك كانت مساعداتها شحيحة)، ومنظمة التحرير الفلسطينية التي تشكو أساساً من عجز مالي في مؤسساتها وسلطتها، لذلك كانت مساعدتها للنازحين والمهجرين الفلسطينيين في سوريا هزيلة جداً، لم تتجاوز حصة الفرد فيها الدولارات العشرة حتى الآن.
هل يتجاوز اللاجئون في سوريا الواقع القديم لصالح واقع جديد. بالطبع هناك محاولات لبناء أنوية لمؤسسات اجتماعية تسهم في تخفيف العبء عن عاتق النازحين والمهجرين، لكن صعوبة الوضع في البلاد يجعل من عملية التراكم في هذه التجربة بطيئة وصعبة جداً.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها