المصالحة الفلسطينية ليست عملية سهلة كما تبدو، وليست مجرد قرارات تصدر من طرفي الانقسام، وحتى أكبر من كونها عملية تمكين الحكومة من القيام بمهامها وصلاحياتها، المصالحة عملية إعادة بناء شاملة تطال كل مكونات السياسة الفلسطينية تصل لأصغر تفاصيل حياة المواطن العادي. وليست مجرد عودة لمرحلة ما قبل الانقسام، وليست مجرد عملية استبدال لموظف، أو استلام موظف، أو توزيع مناصب لتحقيق قدر من التوازن الوظيفي. المصالحة استعادة لعناصر الوحدة والتوافق الوطني لتكون لها الغلبة والقدرة على الاستمرارية والديمومة والقدرة على الصمود ومواجهة التحديات. فحالة المصالحة الفلسطينية لها خصوصية لا تتوفر في نماذج المصالح الأخرى. خصوصية الحالة الفلسطينية تنبع من تعقيدات القضية الفلسطينية وتدخل الكثير من المؤثرات الخارجية التي قد تفوق تأثير العوامل الداخلية، ولذلك الخطوة الأولى في المصالحة تمكين المتغير والفاعل الفلسطيني من استيعاب المؤثرات الخارجية السلبية. وهنا مفهوم التمكين أشمل من مفهوم تمكين الحكومة. والخاصية الثانية حالة الاحتلال والتي تفرض نفسها على عملية المصالحة من حيث تحديد الأهداف والآليات والخيارات. والخاصية الثالثة بناء مؤسسات السلطة أو الدولة قبل إنهاء الاحتلال، وهذا يستوجب البحث في كيفية الحفاظ على هذه المؤسسات وتقويتها وتفعيلها، وتحديد ماهيتها، أي المطلوب مؤسسات كفاحية ديمقراطية. والخاصية الرابعة حلة التنوع الفصائلي المتشعبة والممتدة خارجياً، وهذا يتطلب عملية مصالحة تعالج هذا التعدد والتنوع في إطار وطني فلسطيني. والخاصية والتي أعتبرها الأساس للمصالحة الأساس السياسي والمجتمعي والقيمي الذي تبنى عليه المصالحة. فالانقسام اوجد حالة مركبة ومعقدة، وأوجد تفصيلات صغيرة يمكن أن تتسبب في عرقلة عملية المصالحة على صغرها. هذه الخصائص والحالة الفلسطينية المتفردة ذاتها تفرض ضرورة تبني إستراتيجية وخيارات واضحة ومحددة تواكب عملية الانتقال من مرحلة لأخرى. وتفرض عدم المبالغة في التقييم والإجراءات، بعيداً عن التفاؤل من عدمه. وهنا قد تتعدد هذه المراحل، وبصيغة أخرى تحديد مراحل المصالحة، والشروع في السهل والأكثر قابلية لأن من شأن ذلك الانتقال للمراحل الصعبة، وهنا قد يبرز أكثر من اتجاه وتيار: التيار الأول يرى المصالحة من أعلى لأسفل، أي البدء بالمصالحة السياسية أولاً، والتيار الثاني من أسفل لأعلى أي البدء بالمصالحة القاعدية ونواتها المواطن المتصالح مع نفسه ومع شعبه وقضيته. وفي هذا السياق يمكن تصور المراحل التالية .مرحلة المصالحة الوظيفية، وتشمل هذه المرحلة توحيد القوانين والقرارات الإدارية والقضائية، وإلغاء كل القوانين التي صدرت من المجلس التشريعي ومن هيئات أخرى تتعارض وروح المصالحة، والتوافق على مجموعة القوانين والقرارات التوحيدية سواء في الضفة أو قطاع غزة مع مراعاة خصوصية الفروقات تسهيلاً لعملية التطبيق والتنفيذ.والمرحلة الثانية مرحلة الدمج الوظيفي والقضائي وهي مرحلة أساس يمكن البناء عليها في ديمومة المصالحة واستمرارها. وتأتي بعدها مرحلة التوحد الأمني كعقيدة ومنهاج وكبناء ووظيفة. هذه المراحل الثلاث هي مرحلة النشأة والبناء لعملية المصالحة والتي إذا تمت بنجاح ننتقل معها لمرحلة الاكتمال السياسي والتي بدورها قد تنقسم لأكثر من مرحلة.وتشمل إعادة تفعيل الشرعية السياسية لكافة مؤسسات المنظومة السياسية الفلسطينية، على مستوى مؤسسات منظمة التحرير من خلال إعادة تشكيل المجلس الوطني ليواكب التغيرات والتطورات السياسية المستجدة على مستوى بيئة النظام السياسي الفلسطيني، ومن خلاله إعادة بناء قيادة منظمة التحرير لتكون أكثر تمثيلاً وتعبيراً عن إرادة الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، والمستوى الثاني إعادة تجديد شرعية مؤسسات دولة فلسطين، وهذه هي المرحلة السياسية المهمة التي ينبغي أن تعبر عنها عملية المصالحة إعادة بناء مؤسسات الدولة وليس السلطة المنشأة بأوسلو بالانتخابات الرئاسية لرئاسة دولة فلسطين، وانتخابات المجلس التشريعي ،وبتشكيل حكومة دولة فلسطين، وتكتمل هذه المرحلة بتشكيل لجنة وطنية عليا من المجلس الوطني والمجلس التشريعي لوضع دستور فلسطين المؤقت لأنها فترة انتهاء الاحتلال، وصياغة أسس البرنامج السياسي الفلسطيني، والذي بعدها يعرض للموافقة عليه وتبنيه من المجلس الوطني والمجلس التشريعي، وهذا هو الذي سيحدد إطار العمل السياسي الفلسطيني وهو الضمانة الحقيقية لاستمرارية المصالحة حتى انتهاء الاحتلال واكتمال الدولة الفلسطينية التي تنتهي معها الكثير من مظاهر المرحلة الانتقالية كسلاح الفصائل المختلفة، وبتوحيد كل مظاهر السلاح تحت إطار الشرعية الواحدة، وغياب ظاهرة الفصائلية وتحولها لأحزاب سياسية في إطار من التعددية السياسية المدنية الديمقراطية. هذه المراحل قد لا ترتبط بزمن معين، لكن تبقى مرحلة النشأة والتأسيس هي المدخل للدخول في المرحلة الأخيرة ولا تحتمل التأخير.