خاص مجلة "القدس" العدد 342 تشرين اول 2017
بقلم:هيفاء داوود الأطرش
في كل المحافل الدولية والدبلوماسية، يستمر اللهاث المحموم، نحو قطع الطريق على الفلسطينيين؛ فتارةً يهيئون الأجواء للتطبيع العربي الإسرائيلي، وتارةً يقحمونها غصباً في المحافل الدولية، فرضاً للأمر الواقع، وفي مناسباتٍ لها الطابع الذي يتعدى العناوين إلى الرؤية والمبادئ والسياسة الاستراتيجية المتبعة، كما حصل في المهرجان المنعقد من قبل الاتحاد العالمي للطلبة والشباب الديمقراطي، هذه المنظمة الشبابية العالمية التي تنضوي في صفوفها عشرات المنظمات الشبابية في دول العالم ومنها العربية، وتشارك في فعاليته الدورية، وهو مهرجان الطلاب والشباب العالمي، الذي يشكل محطةً هامة ومنبراً حراً لمناضلي قوى التحرر العالمي ضد الامبريالية والاستعمار، والذي تترد في أجوائه أيضاً وعلى الدوام ، شعارات المناصرة للقضية الفلسطينية، حيث تدعم الوفود المشاركة النضال ضد الصهيونية والاحتلال الإسرائيلي وإجراءاته التعسفية ضد الشعب الفلسطيني، ويعتبر هذا المهرجان هو أكبر حدث شبابي مناهض للإمبريالية في العالم، حيث ينعقد كل 4 سنوات بمشاركة ما يزيد عن 10 آلاف من الشباب ومن عشرات الدول في إطار برنامج سياسي وثقافي وفني.
ورغم تحذيرات ورفض الاتحاد واللجنة التحضرية العالمية وهي أعلى سلطة منظمة للمهرجان، إقحام قوى صهيونية في المهرجان 19 في روسيا لعام 2017، من قبل الدولة المستضيفة، لدرجة مقاطعة اتحاد الشباب الديمقراطي الاجتماعات التحضيرية الأولية للمهرجان، حفاظاً على مبادئ وهوية المهرجان اليساري التقدمي؛ لكنهم فوجئوا بنصب العلم الإسرائيلي إلى جانب الأعلام المشاركة في يوم افتتاح المهرجان، حيث توَضـَّحَ موقف الحكومة الروسية حينها ، عندما لم تتعاط مع تلك المطالب، لدرجة تغييب العلم الفلسطيني ولأول مرة عبر 18 مهرجاناً كان يرفع في فعالياته، حيث الشعارات الداعية لعولمة النضال من أجل السلام والنضال ضد الامبريالية.
وبناءً عليه، كان الموقف الغاضب الهادف إلى طرد الوفد الإسرائيلي والذي تطور بسبب غياب العلم الفلسطيني، والذي بني على أساس قانوني تبنته الوفود العربية ومعها باقي الوفود من آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، فإسرائيل ليست عضواً في اتحاد الشباب الديموقراطي العالمي، علاوةً أن الوفد ضم َ أعضاء من حزب يميني متطرف مثل حزب إسرائيل بيتنا؛ وهي المرة الأولى في تاريخ المهرجان اليساري، بإقحام جهات لا علاقة لها بطبيعة المهرجان، كإسرائيل، ما يتعارض مع رؤية وأهداف اتحاد الشباب الديموقراطي العالمي.
وبقي المهرجان على موقفه الثابت في إقامة ندوات وفعاليات سياسية وثقافية وفنية، في إطاره المعتاد بمشاركة الآلاف من الشباب اليساري من مختلف دول العالم، إلا أن القرار السياسي الحاكم هناك حطِّ بطائرة الوفد الصهيوني الذي استقبلته طيات رايتهم المزعومة، والذي لم تكتمل فرحته، حينما هبَّ الشباب الحر لطرده من المهرجان.
وإن جاء الاعتذار فيما بعد من الجهة المستضيفة برفع العلم الفلسطيني، بعد حادثة إنزال العلم الإسرائيلي على يد المناضلة اللبنانية لينا بعلبكي، والتي تم طردها من المهرجان بعد احتجازها رهن الاعتقال، لكن محاولة فرض الحضور الإسرائيلي في المهرجان، تعني إدراكهم الخطر الذي تشكله المواقف السياسية للشباب الديمقراطي العالمي، فهي موجات تتدافع عبر السنين في وجه طغيان الاحتلال الإسرائيلي، والتي تعري كذبة الديمقراطية الإسرائيلية التي تلمعها وسائل الإعلام الغربية؛ ونحن نعلم التأثير القوي الذي يقوم به الشباب الديمقراطي العالمي من خلال مناصرة القضية الفلسطينية وتحشيد الأصوات الداعمة التي تعدَّت واخترقت جدران البرلمانات الغربية والأوروبية، والمتمثلة بدعم المقاومة الشعبية الفلسطينية ضد جدار الفصل العنصري وممارسات الاحتلال الإجرامية والتعسفية ضد العمال الفلسطينيين والشعب بأكمله؛ وتجسد الدعم للفلسطينيين من خلال توجه وفود برلمانية أجنبية حاشدة إلى الأراضي المحتلة لعام 1967للإطلاع على الأوضاع الفلسطينية هناك، إثر اندلاع المقاومة الشعبية في الضفة الغربية ، بالتالي تشكيل مواقف حاسمة لصالح القضية الفلسطينية.
وبالعودة إلى الموضوع المطروح، فإنني في هذه اللحظة، أستذكر المهرجان ال15 عام 2001 الذي استضافته الجزائر والذي انعقد تحت شعار (لنعولم النضال من أجل السلام والتنمية، ضد الامبريالية)، حيث تفاعلت حينها كل الدول الممثلة في المهرجان مع الوفد الفلسطيني ، الذي قدم كل الأسباب من أجل محاكمة إسرائيل على جرائمها في يوم فلسطين المخصص في المهرجان وباقي ورش العمل المطروحة على جدول الأعمال، فكانت الأجواء مفعمة بالتضامن مع الشعب الفلسطيني والانتفاضة آنذاك؛ ولا يعني ذلك أن التضامن مع القضية الفلسطينية من قبل وفي أي مهرجان سابق قد خبت جذوته.
وما أريد تسليط الضوء عليه في المهرجان الـ19 عام 2017 الحالي الذي انعقد في روسيا تحت شعار (من أجل السلام، التضامن والعدالة الاجتماعية، نناضل ضد الإمبريالية، ونحترم مستقبلنا، ونبني المستقبل)، هو الرسالة الواضحة في ذات الشعار، والموجهة لكل من يضرب نضال الشباب الحر عرض الحائط، هذا الشعار الذي يؤكد على احترام نوعية وكيفية وهيئة المستقبل الذي يبنيه نضالهم عبر كل تلك السنوات منذ تأسيس الاتحاد عام 1945ضد الامبريالية والصهيونية المتمثلة بالاحتلال الإسرائيلي المجرم.
هذا الاتحاد الذي تأسس خلال اجتماع دولي لممثلي الشباب من الدول التي خاضت الحرب العالمية الثانية، في لندن بهدف العمل من أجل عالم جديد يسوده السلم والاستقرار والتقدم بعد حروب أودت بحياة الملايين، ومقره الرئيس في بودابست في هنغاريا، والذي ترأسه حالياً الشبيبة الشيوعية البرتغالية ، فيما تتكون عضوية قيادته حالياً من اتحاد الشباب الديمقراطي اللبناني، شبيبة حزب الجبهة الأفريقية الوطنية في زيمبابوي، الشبيبة الشيوعية الكوبية، والشبيبة الديمقراطية النيبالي.
وإن كانت طبيعة المهرجان المـُقام في روسيا يمت بصلةٍ وثيقة ٍ لتاريخ عتيق بلغت فيه الاشتراكية والشيوعية والماركسية أوجها ثم اليسارية والتقدمية؛ فلم يشفع تاريخ المنطقة عند أصحاب القرارات السياسية، بمراجعة أنفسهم، ولا الذكرى المئوية للثورة البلشفية، والذي كان شرطاً مقدماً من داخل المنظمة الدولية إلى الجهة المستضيفة، من أجل قبولها استضافة المهرجان في روسيا، بالإضافة إلى تبني الدولة المستضيفة لشعارات اتحاد الطلبة والشباب الديمقراطي، والشعار التاريخي للمهرجان في مناهضة الامبريالية؛ كل ذلك لم يشفع، لأن ذاك التاريخ قد ولى بعيداً، ففي السياسة لا صوت يعلو فوق صوت المصالح السياسية؛ في زمنٍ تسيطر فيه قوى دولية تعيد تقسيم الكعكة بقالبٍ جديدٍ، في الشرق الأوسط.
ومن المؤكد أن اتحاد الشباب الديمقراطي العالمي كان ليرفض مشاركة قوى صهيونية في المهرجان الـ19، وهي التي طالما مارست الظلم والقتل والتدمير ضد الانسان الفلسطيني، وهذا ما جعلنا نطلق مقولة (شر البلية ما يضحك)، فوقاحة ما يدعى بالوفد الاسرائيلي، وحضور أفراده الممعنين في عنصريتهم ضد العرب والفلسطينيين إلى المهرجان، لهو خطوة فيها من العنجهية المعهودة للصورة النمطية الإسرائيلية، ولربما تكون خطوة اختبارية أيضاً للمستقبل.
وفي كل الأحوال، فقد قاطعت الوفود العربية الافتتاح؛ وتم تنظيم اعتصام تضامني مع القضية الفلسطينية بمشاركة المئات من العرب وعلى رأسهم الفلسطينيون واللبنانيون وآلاف الشيوعيين، والذين نجحوا فعلاً في صيانة هوية المهرجان وبرنامجه وفرضوا ما أرادوه رغم خسارتهم للدعم، ورغم اصطناع مهرجانات موازية على هامشه ودعمها إعلامياً ولوجيستياً بمناكفةٍ مـُـتَعـَمـَّدة من الدولة المضيفة بسبب عدم تمرير ما خطط له سياسيو تلك المصالح.
والأسئلة الملحة في هذا المنحى، هل ستعيد إسرائيل حساباتها لتجهيز نفسها للمهرجان القادم، بطرح مبادرة حقيقية من قبلها لتطبيق السلام والرضوخ للمطالب المشروعة الفلسطينية، وإعادة طرح نفسها كدولة ديمقراطية كما تزعم ،على أسس جديدة وواقعية تحسم النتائج لصالح سلام حقيقي، وماهي السبل المـُراد تعبيدها، وماهي السيناريوهات التي ستستجد في هذا المضمار، والتي من المتوقع أن تكون استكمالاً لما يجري من مخططات في المنطقة، وهل سيكون هناك سلامٌ يعلو صوته في سماء المنطقة.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها