كتب الكثير في ماهية السياسة، وبدت المقولة القائلة، أن "السياسة فن الممكن"، هي الأكثر تعبيرا عن إبداعات القيادات السياسية، لاسيما وانها تسمح للقيادة، مطلق قيادة بالمناورة والغوص مع الآخر عدوا او خصما او حتى حليفا في التفاصيل المختلفة لإي قضية من القضايا المثارة. بالتأكيد كل قائد يرفع سقف مساومته إلى الحد الأعلى، لكنه يكون واضعا في حساباته عددا من السيناريوهات تتضمن ضمنيا ما يمكن تقديمه من تنازلات للجهة الأخرى في التفاوض. غير ان المرونة السياسية او فن الممكن، لا تعني بحال من الأحوال، تقديم أية تنازلات مجانية. ولا يفهم منها التخلي عن الثوابت الوطنية السياسية او الإقتصادية او الثقافية.

إذاً التفاوض مع الآخر في قضية ما يشمل كل جوانبها. ولا يمكن لإي فريق أن يفرض على الفريق الآخر سقفا محددا لطرح رؤاه وافكاره وسيناريوهاته إلآ في حالة واحدة، هي حالة الهزيمة العسكرية، وعندئذ على الطرف المهزوم التوقيع على صك الإستسلام لشروط المنتصر. لإنه لا يملك أية خيارات بديلة. مع ذلك يمكن إعتبار التوقيع على صك الإستسلام مسألة آنية، مؤقتة مرهونة بتغير الظروف. وفي ظروف أخرى إن توفرت جغرافيا (أرض تحت سيطرته) للطرف المهزوم، يمكنه ان يرفض الإستسلام، وتكون حدود المناورة لديه أعلى. أضف لما ورد أعلاه، في ظروف الهزيمة يمكن تبادل الأدوار بين القيادات السياسية والعسكرية الرسمية المستسلمة وبين المقاومة الشعبية وقياداتها، فترفض ما وقعت عليه تلك القيادات. وهذا التبادل ليس شرطا ان يكون متفقا عليه مسبقا، بل نتاج مسؤولية القيادات الوطنية والقومية الشعبية تجاه نفسها وشعبها ومصالحه القومية، لذا ترفض الهزيمة وتنتقل لمقاومة المحتل.

في الحالة الفلسطينية الإسرائيلية مسألة الصراع بينهما أكثر تعقيدا من كل الصراعات التقليدية. لإن الصراع منذ البداية لم يكن فلسطينيا إسرائيليا فقط، بل كان صراعا فرضته قوى عالمية (الغرب الرأسمالي عموما وبريطانيا خصوصا) على شعوب الأمة العربية، تجسد بإقامة الدولة الإسرائيلية على جزء من ارض فلسطين التاريخية كمقدمة للسيطرة على شعوب الأمة ونهب ثرواتها، وتبديد اية مشاريع قومية نهضوية، وبالتالي تم الترجمة العملية لمخطط مؤتمركامبل بنرمان 2005/2007 وإتفاقية سايكس بيكو 1916. وهو ما يعني أن النكبة الفلسطينية في 1948 لم تكن بفعل المشروع الصهيوني وادواته المنظمات الإرهابية "الهاجاناة" و"شتيرن" و"إتسل" وغيرها لوحده، انما بفعل الدولة المنتدبة (بريطانيا)على فلسطين، التي إستخدمت منظمات الإرهاب الصهيونية كواجهة وأداة حاملة ومنفذة لتحقيق المشروع الأعمق والأكبر، الذي يؤمن مصالح كلا الطرفين الغربي الرأسمالي والصهيوني على حد سواء. ما نجم عنه لاحقا من تطورات في المشهد السياسي الفلسطيني والعربي عزز من مكانة القاعدة المادية للمشروع الصهيوني دولة إسرائيل، وإنتقلت من دور الأداة التابعة إلى دور الأداة الشريك للغرب. ومع تحقيقها (إسرائيل) إنتصارات على العرب في ال1948 و1956 و1967 وحتى الآن، تعزز المشروع الصهيوني على الأرض الفلسطينية. لكن مع بروز الثورة الفلسطينية المعاصرة 1965 وإستعادتها للدور الوطني في المشهد السياسي، وتكريس منظمة التحرير ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني، وفرضها نفسها لاعب اساسي في المعادلة السياسية، لم يعد ممكنا القفز عنها، رغما عن الأعداء والأشقاء والأقطاب الدولية، مما أرغم إسرائيل للتفاوض معها، وتوقيع اتفاقيات اوسلو عام 1993 معها، بغض النظر عن مثالبها ونواقصها وتشوهاتها المختلفة. وبات المشروع الصهيوني يسير بخط متعرج، يواجه تحديات كبيرة في مساره التصاعدي.

نتيجة هذا التعقيد والتشابك المركب للمسألة الفلسطينية يتم في إطار القراءات من قبل المراقبين السياسيين الإسرائيليين والفلسطينيين والعرب والعالميين، فضلا عما تبثه القوى الإسرائيلية الحاكمة المتعاقبة وادواتها ومنابرها الإعلامية والبحثية واجهزة امنها، والقوى المتناقضة مع المشروع الوطني طرح سينايوهات عديدة لسقف إسرائيل التفاوضي وحدود التنازل الفلسطيني، التي تتضاعف هذه الأيام مع الحديث عن الصفقة الترامبية الكبرى، وجلها يشير إلى تغليب تقديم تنازلات فلسطينية إضافية. ومع القناعة العميقة بأن كل السيناريوهات الواقعية وغير الواقعية ممكنة الطرح على بساط التفاوض، ولكن المرونة العالية، التي تتعامل فيها القيادة الفلسطينية مع مركبات عملية السلام، إلآ إنها لا تعني بحال من الأحوال التخلي عن الثوابت الوطنية المعروفة. بتعبير آخر تستطيع الحكومة الإسرائيلية طرح ما تريد للإبتزاز وإنتزاع ما يمكن إنتزاعه من منظمة التحرير، ولكن القيادة بتمسكها بثوابتها الوطنية، تمثل الحصن المنيع لتحقيق الأهداف الوطنية بإقامة الدولة المستقلة على حدود الرابع من حزيران عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وضمان حق العودة للاجئين الفلسطينيين وفقا للقرار الدولي 194 ومبادرة السلام العربية ومرحعيات عملية السلام. وهنا تكمن سياسة فن الممكن، والإبداع في إدارة الصراع مستعينة ومستفيدة بكل العوامل الذاتية والموضوعية الداعمة للحق الوطني.