بين يدينا الوثيقة الجديدة لحركة حماس التي تعرض المبادئ والمنطلقات التي تستند إليها الحركة في تكوين رؤيتها وبناء خطابها وتحديد سلوكها وأدائها السياسي، وهي وثيقة غير مؤرخة وغير موقعة، والمتوقع أن يكون خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس قد أذاعها في 1/5/2017 لتكتسب بعد ذلك صفةالشيوع والإلزام. ومهما يكن الأمر، فإن هذه الوثيقة، أو لنقل مسودة الوثيقة، تبدو لي كأنها خطت خطوات واسعة لملاقاة حركة فتح وبقية مكونات منظمة التحرير الفلسطينية على أرض العمل السياسي الفلسطيني، بعدما عاشت حركة حماس طويلاً على أرض أخرى مكان النضال الفلسطيني المسلح يؤسس، في أثناء ذلك، حقائق السياسة في المنطقة العربية، وينقل الفلسطينيين من حالة اللجوء إلى مرتبة الشعب المكافح في سبيل حريته وإستقلاله. ومع أن هذه الوثيقة تتسم بكثير من العموميات، وبقليل من التفصيلات، إلا إن عمومياتها تثير اللبس والإبهام أحياناً، أو تنزلق إلى شعارات يمكن تفسيرها على أكثر من وجه بحسب متطلبات الأحوال.
لن ترد كلمة أميركا أو الولايات المتحدة الأميركية في هذه الوثيقة على الإطلاق، إلا أنها وردت بطريقة مموهة في المادة (40) في صيغة "تدين – حماس – دعم أي جهة أو طرف للكيان الصهيوني..."، وهذه الصيغة تعني أميركا أو بريطانيا أو الفلبين أو حتى الصين. وحين تتعدد التفسيرات تتناقص المنفعة.
مهما يكن الأمر، فهذه الوثيقة تعرّف حركة حماس بأنها حركة تحرر ومقاومة وطنية فلسطينية (المادة1)، أي أنها حركة تحرر وطني بأديولوجية إسلامية،وهذا حسن وتطور مهم. وأود أن أضيف، في هذا السياق، أن من بدهيات حركات التحرر الوطني والحركات السياسية في مرحلة التحرر من الاستعمار، هي السعي لإنشاء جبهة وطنية متحدة، لأن في مرحلة التحرر الوطني لا يمكن أن ينفرد أي طرف وحده بالجهد السياسي أو العسكري. لكن الاسلاميين عموماً برهنوا أن من الصعب عليهم في إطار الجبهات المتحدة كمنظمة التحرر الفلسطينية مثلاً، وهم لا يستطعيون العمل السياسي حتى مع المجموعات التي تتشارك وإياهم الرؤى المتقاربة. ومن المعروف، إلى حد كبير في الدراسات السوسيولوجية، أن الجماعات الاسلامية المسيسة جميعها تقريباً تتحول رويداً رويداً إلى طائفة مغلقة بحيث تتطور في داخلها الشعارات نفسها، وطريقة الكلام نفسها، والسلوك اليومي المتشابه. وأفراد هذه الجماعات يعيشون عضوياً متقاربين ويتزاورون ويتزاوجون ويعملون بمعزل عن السواد الأعظم من الآخرين، إلا مَن كانت مهماته تقضي الاختلاط بالمجتمع ومؤسساته المدنية أو الرسمية. وتداخل السياسي بالدعوي يثير إشكالات فكرية وسياسية شديدة الخطر والخطورة. وفي عالمنا الراهن صار بدهياً القول إن أي حركة سياسية عندما تصل إلى السلطة،أكان في الانتخابات أو حتى بالانقلاب العسكري (كما حصل في غزة سنة 2007) فليس لها الحق في تطبيق ايديولوجيتها البتة، بينما يكون لها الحق تماماً في تطبيق برنامجها السياسي. ولعل الوثيقة لحركة حماس تشير، في بعض جوانبها، إلى تقدم السياسي ولو قليلاً على الايديولوجي.

الناسخ والمنسوخ
الوثيقة الجديدة تنسخ الميثاق الوطني الفلسطيني لسنة 1968 في كثير من مواده، وبالحرف الواحد أحياناً. ففي المادة الرابعة من الوثيقة التي تقول: "الفلسطينيون هم المواطنون العرب الذين كانوا يقيمون إقامة دائمة في فلسطين حتى سنة 1947..."، هي نفسها المادة الخامسة من الميثاق الوطني. والمادة الخامسة من الوثيقة التي تتحدث عن ان "الشخصية الفلسطينية صفة أصلية لا تزول..."، هي نفسها المادة الرابعة من الميثاق الوطني. والمادة 17 من الوثيقة هي نفسها المادة 20 من الميثاق الوطني، والمادتان 13 و 14 تتطابقان مع المادة 22 من الميثاق الوطني، وهناك أكثر من فقرة أو عبارة مستلة من الميثاق الوطني إما بحذافيرها أو بمعانيها. وها أنا أجد في ذلك التطابق أو التشابه عنصراً ايجابياً حقاً، وهذا ما قصدتُ إليه حين اعتبرت ما نحدد بصدده إشارة إلى بداية لقاء فلسطيني – فلسطيني، أو فتحاوي – حمساوي على أرض الوطنية الفلسطينية، وعلى أرض العمل السياسي المشترك مع ما يوجد من ألغام كثيرة على هذا الدرب.
 تعيدنا هذه الوثيقة "الجديدة"، في بعض بنودها، وهي كثيرة، نحو خمسين سنة إلى الوراء، أي الميثاق الوطني الفلسطيني الثاني الذي صدر في نهاية الدورة الرابعة للمجلس الوطني الفلسطيني (القاهرة، 10/7/1968)، غداة استقالة أحمد الشقيري وسيطرة المنظمات الفدائية على منظمة التحرير الفلسطينية بعد معركة الكرامة في 21/3/1968. وأعود وأكرر أن ايجابيات هذه الوثيقة كثيرة، وفي مقدمة ذلك اللغة الوطنية الجديدة نسبياً على أدبيات حركة حماس، والاقتراب من منظمة التحرير وشعاراتها كفكرة الدولة الفلسطينية على حدود 1967... الخ، لكن كان من البدهي أخذ حساب الزمن في الاعتبار؛ فبعد نصف قرن على الميثاق الوطني الفلسطيني الثاني ( للدقة، بعد 49 سنة)، يتوقع الواحد منا أن تخاطب أي وثيقة جديدة المستقبل الفلسطيني، لا أن تردم السنين، وكأن ما تغير في حياة الفلسطينيين ومصائرهم منذ خمسين سنة هو أمر لا أثر له. وفي أي حال، فإن الكلام على أن " منظمة التحرير هي إطار وطني للشعب الفلسطيني في الداخل والخارج يجب المحافظة عليه"، هو كلام أكثر من جيد، ويخالف عشرات التصريحات لبعض قادة حماس عن الانضمام إلى منظمة التحرير ليس مهماً لأنها منظمة علمانية لا إسلامية. وهذا الموقف الانعزالي لم يكن مشتركاً لدى جميع قادة حماس. واليوم، فإن الوعي المتأخر، حتى لو تأخر، هو حكمة نافعة. وكذلك المادة 19 من الوثيقة التي سيدور حولها كثير من الجدال، والمتعلقة بقبول حركة حماس، أخيراً، بفكرة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من حزيران 1967؛ فهذه المادة ما عادت جديدة البتة، وجرى عليها كلام كثير، وصرح بذلك الشيخ أحمد ياسين نفسه علاوة على غيره من القادة الحمساويين الذين لوحوا، أكثر من مرة، بل صرّحوا مراراً بإمكان الاعتراف بإسرائيل. وكنا نعتقد أن ذلك مجرد تصريحات صحافية أو مقابلات إعلامية غير ملزمة في نهاية المطاف بعباراتها كلها. الآن، صارت لدينا وثيقة ملزمة عن القبول بفكرة الدولة الفلسطينية المستقلة على الضفة الغربية وقطاع غزة (مع بقية الشروط المعروفة). وبالمعنى السياسي المحض، فإن هذه الوثيقة هي "فوات تاريخي" لأنها تعود بنا إلى سنة 1974، وإعلان منظمة التحرير الفلسطينية صيغة "النقاط العشر" في ختام مجلسها الوطني الثاني عشر، والتي تتضمن فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة من دون الاعتراف بإسرائيل، وبشرط عودة اللاجئين واستعادة القدس، وهي غاية ما زالت دونها خرط القتاد. وقصارى القول هنا، في هذا العرض، أن ثمة نقصاناً فادحاً في الوثيقة هو عدم تطرقها إلى إعادة الوحدة إلى شطري فلسطين (الإنفصال العملي لقطاع غزة عن الضفة الغربية)، الأمر الذي بات يُخشى معه أن يتحول ما بقي في فلسطين إلى كونفدرالية.

الأرض والهوية
في آخر المادة 16 تقول وثيقة حركة حماس ما يلي: " إن الحركة الصهيونية (...) هي النموذج الأخطر للاحتلال الصهيوني الذي زال عن معظم أرجاء العالم والذي يجب أن يزول عن فلسطين". ومع أن النص هنا مرتبك نوعاً ما، إلا أن الدقة تقتضي القول إن الاحتلال الصهيوني هو نموذج فريد للاحتلالات كلها بمختلف ضروبها وصنوفها، أي أن للاحتلال الصهيوني فرادة لم تتوافر حتى في الاحتلالات الاستيطانية التي شهدها التاريخ المعاصر وحتى الوسيط، منذ بداية عهد الاستعمار حتى اليوم. فالاحتلال الفرنسي للجزائر لم يطرد الشعب من أرضه ويحل في محله شعباً آخر، بل عمل على استغلال ما فوق الأرض، أي الشعب، وما تحتها أيضاً. والاستيطان الأبيض (الهولندي والانكليزي) لجنوب أفريقيا وروديسيا (زيمبابوي) استولى على كل شيء، واستخدم الشعب عبيداً له، ووضعهم في معازل قسرية عنصرية، لكنه أبقى على السكان في مقاطعاتهم الأصلية وفي معازلهم الجديدة. والاستيطان الوحيد الذي أباد السكان الأصليين هو الاستعمار الابيض الأوروبي والغزاة المهاجرون إلى أميركا. أما في فلسطين فالإبادة كانت مستحيلة في شروط حقبة النكبة، فكان الترحيل (الترانسفير) والاحتلال. وصار الفلسطينيون أقلية في بلدهم الأصلي بعدما ما كانوا الأكثر، وتمكن الاستعمار الانكليزي، والإمبريالية الأميركية لاحقاً، من إسناد الأقلية اليهودية كي تصبح أكثرية السكان بالقوة.  وبهذا المعنى فإن الإصرار على أن "فلسطين أرض عربية إسلامية، وهي أرض مباركة مقدسة..."، فيها تجاوز للتاريخ والعصر. فالأرض لا هوية لا دينية لها، بل لها هوية حضارية، أي هوية قومية. الدين للأفراد والجماعات لا للأرض. ولعل من الملائم التذكير أن الوثيقة خلت من عبارة " أن أرض فلسطين وقف إسلامي"... وهذا تطور إلى الأمام. أما الكلام عن أنها أرض مباركة ومقدسة فهو تزيد لا ينفرد بأي شيء. صحيح أنها أرض مقدسة لدى المسيحيين (وليس لدى المسلمين وحدهم)، لكن مصر أيضاً أرض مقدسة لدى المسيحيين ( قصة هروب العائلة المقدسة إلى بلدة المطرية في الدلتا وسكنها في مصر إلى أن جرت العودة إلى فلسطين)، وسورية أرض مقدسة لدى المسلمين والمسيحيين بالدرجة الأولى؛ فالبشارة الربانية نزلت على بولس – بحسب التاريخ المسيحي –  في الشارع المستقيم ( شارع مدحت باشا اليوم)، وكنيسة حنانيا التي لجأ إليها ما برحت موجودة حتى اليوم غربي الباب الشرقي عند سور دمشق التاريخي.
ثمة جزء سيئ في نص المادة 8 من الوثيقة يقول إن حماس تفهم الاسلام بشموله جوانب الحياة كافة، وصلاحيته لكل زمان ومكان(...)، وفي ظله يعيش أتباع الشرائع والأديان في أمن وسلام". أولاً، لم تُثبت وقائع التاريخ، إلا في حالات قليلة جداً، أن أتباع الشرائع والأديان عاشوا في أمنٍ وسلام في ظل الدول الإسلامية المتعاقبة. وثانياً، يكرر هذا النص مقولة أهل الذمة بحذافيرها، أي عقد الأمان معهم. وفي عصرنا الراهن ما عاد مقبولاً مثل هذا الكلام، فالمسيحيون، مثلاً، وهم سكان فلسطين قبل الإسلام، لا يرغبون في العيش في ظل أي جماعة، بما في ذلك الاسلام. ومَن قال إنهم يتطلعون إلى أمنهم وأمانهم لدى المسلمين؟ وبالطبع، فإن الجميع يريد الأمن والأمان، لكن في إطار الدولة الراعية والحامية في الوقت نفسه وفي نطاق دولة المواطنة المتساوية والعادلة. وعقد الأمان أو صيغة أهل الذمة ( وهي صيغة متقادمة وانتهى زمن صلاحيتها منذ قرون) هي صيغة إذعان اليوم، وهي تعود إلى عصر ما قبل الدولة لأنها تقوم بين جماعتين وليس بين مواطنين أحرار ودولتهم العادلة. أما عبارة "التعايش والتسامح" الواردة في المادة 8 من الوثيقة فهي عبارة غير صالحة للمستقبل، وهي شاعت في سياق الحرب الأهلية اللبنانية في محاولة لجبر الكسور الكثيرة بين المسلمين والمسيحيين، وللتغاضي عما ارتكبه كل طرف بحق الطرف الآخر من مجازر وتقتيل وطرد وتهجير. وليست هذه بالطبع فلسطين التي نحلم بها ونتطلع اليها.