يتميز القصص القرآني بالرزانة والحكمة وحُسن السبك والدقة والكثير من العبر، فالكتاب لا يأتيه الباطل لا من بين يديه ولا من خلفه وهو في اللوح المحفوظ.
تحتوي قصص التوراة لصاحب أي عقل مهما صغر على الضخم من المبالغات المضحكة، والأساطير والتخيلات بل والتهيؤات والآمال التي تحولت عبر الزمن إلى خرافات وأساطير دونت في متون ما أصبح التناخ (التوراة والاسفار اللاحقة في العهد القديم).
هذا ليس كلامنا فقط، بل هو قول كل متأمل بالقصص التوراتي بحيادية مطلقة، أضف لذلك أنه كلام العلماء أيضا وبالدلائل، ومنهم علماء الآثار الغربيين المنصفين، والاسرائيليين أمثال (اسرائيل فنكلستاين) و(زئيف هرتزوغ) و(نيل أشر سبيلبرغ) وعلماء التاريخ والفكر الاسرائيليين أيضا أمثال (شلومو ساند) و(أرثر كوستلر).
يقول العالم الاسرائيلي "فنكلشتاين" في كتابة (التوراة مكشوفة على حقيقتها): (أصبح الآن واضحا أن العديد من أحداث التاريخ التوراتي لم تحدث لا في المكان ولا بالطريقة والأوصاف التي رويت في "الكتاب المقدس العبري"بل بعض أشهر الحوادث في الكتاب المقدس لم تحدث أصلا).ص28.
ويقول: (لقد أصبح الكل يجمع على أن الأسفار الخمسة (التوراة) ليست تأليفا فرديا(كتلة واحدة) بل تجميع وترقيع لمصادر مختلفة،كل منها كتب تحت ظروف تاريخية مختلفة،لإبداء وجهات نظر دينية أو سياسية مختلفة.) ص38
بل ويقول أيضا (هناك الكثير من التناقضات بين الاكتشافات الأثرية والنصوص التوراتية)ص48 مضيفا: (سنرى كم من قصص وروايات الكتاب المقدس العبري هو من نتاج آمال ومخاوف وطموحات مملكة يهوذا...)
وليس ببعيد ما يقوله أيضا (فكتور سيغلمان) حول ذلك إذ يقول بوضوح :(إن علماء الآثار لم يعثروا على أي أثر لخراب معبد، ولا مملكة متألقة لسليمان ولا أي شيء آخر. والنص التوراتي الذي ليست له قاعدة مادية حقيقية، ليس سوى اختراع أدبي.)
ولا نريد الاستطراد لأن بحثنا يتعرض أساسا للادخالات من الروايات التوراتية في صلب تفاسير القرآن الكريم ما أسبغ عليها قداسة لدى الأمة، وهو ما ابتغينا تفنيده، والا فللكثير من المفكرين قول فصل من الزوايا التاريخية والاثارية والجغرافية واللغوية البحتة.
الفرق كبير بين القصص القرآني الحكيم، والخرافات التوراتية، فاللقاء الظاهري بينهما لا يعني اتفاقهما أبدا كالفرق بين الحقيقة وهي في القرآن، والقصة الادبية المؤسطرة التي تربط الخيالات والاكاذيب بقليل يسير من احداث الواقع وهي في مرويات التوراة.
ورغم ذلك فلقد استند الكثير من المؤرخين العرب وعدد من مفسري القرآن الكريم خاصة القدماء إلى تلك القصص التوراتية الخرافية (وفيها ما يتعلق بنا -وهنا الطامة الكبرى- كفلسطينيين وأرض فلسطين وما يتعلق ببني اسرائيل) لا سيما عندما وجدوا ثغرات أو فراغات لم يستطيعوا أن يكملوها في قصص القرآن، ورغبة منهم بالتوسع بالشرح، فلجأوا إلى قصص الكهنة التي دونت بعد ٥٠٠ عام في التوراة!
لا صلة تجمع بين أساطير اليهود والقرآن الكريم مطلقا، وما التقارب بالمرويات والقصص القرآني مع تلك الواردة في متون التوراة (حول الأنبياء من نوح فابراهيم، فداوود وسليمان الى موسى...الخ، وغير ذلك) الا مشابهات عامة، أي في العموميات، كأن تقرأ خبرا عن "واقعة" واضحة وقعت أمامك، وقصة رويت باسهاب استنادا "للواقعة" أسبغ عليها القاص من خيالاته واحلامه وعواطفه ما يريده، لذا فقصص القرآن الكريم لا تتفق مع خرافات التوراة قط لا بالمضامين ولا بسرد الأحداث حيث التفاصيل والعبر.
الى ذلك ضرب الكثير من المؤرخين العرب والمسلمين بعرض الحائط روايات الاخباريين العرب بل وأهملوا ديوان العرب أي الشعر الذي يضم كما هائلا من المعلومات الجغرافية والتاريخية والسردية السيرية (من السيرة) ولجأوا للمدون.
لجأ المؤرخون المسلمون والعرب إلى قصص التوراة الخرافية وأساطيرها في ظل عصور كانت تتقبل الأسطرة بسهولة، وفي ظل طغيان العقل النقلي الاتباعي، وذلك رغم التحذير الإلهي الصارم من هؤلاء الكهنة من أنهم يأكلون بكتاباتهم ثمنا قليلا، والتحذير من أنهم يحرفون الكلم عن مواضعه.
بالرغم من تحذير القرآن من تعمد التزوير، وهو ما قام به الكهنة اليهود من آلاف السنين وما يزالون.
بل وبالرغم من الحض الإلهي على التفكر والتدبر والتأمل والتعقل والنظر!استمد الكثير من مؤرخينا مصادرهم مما لا يوثق به.
لهذا وغيره ولضرورة تصحيح الرواية العربية المتداولة، ومنها تلك المتعلقة بأرض فلسطين، وأساطير بني اسرائيل القبيلة العربية اليمنية المنقرضة كان أن أنجزنا بحثنا لمحاولة سد الثغرة في عقل المسلمين والمسيحيين التي تلجأ تلقائيا للرد ضد أي رواية تخالف المألوف لديها بالقول: أنها تخالف القرآن؟ أو تخالف الكتاب المقدس؟
الطرح الفكري العلمي والجغرافي والتاريخي (والانثروبيولوجي) الجديد يقرر أن لا قداسة للأساطير، ولا علاقة البتة للتفسيرات والتأويلات المستندة لما يسمى الاسرائيليات (حتى الكثير من تلك الواردة في متون كثير من تفاسير المسلمين القديمة للقرآن الكريم) بحقيقة النص القرأني ناصع الوضوح، كما لا علاقة مطلقا لأتباع الديانة اليهودية اليوم من قوميات متعددة بتلك القبيلة العربية المنقرضة المسماة قبيلة بني اسرائيل (أنظر أرثر كوستلر وشلومو ساند والمؤرخ المصري جمال حمدان).
النص القرآني كان ومازال موثوقا مما أدى بالكثير من المفكرين اليوم أن يستندوا لبعض مما فيه من نصوص حكيمة ويعودون له لغويا كما فعل -بالقليل منه- د.كمال الصليبي وفاضل الربيعي وأحمد الدبش وفرج الله صالح ديب بشكل أو آخر لاثبات مسرح أحداث مغاير لذلك الموهوم لمعظم الأحداث التوراتية، التي حسب كل هؤلاء والكثير أمثالهم وقعت في مساحات ومسرح جغرافي لا علاقة لنا به كفلسطينيين، أي لا علاقة له بأرض فلسطين.
في بحثنا نحن نحاول أن ندلّل من ذات نصوص المفسرين المسلمين وبشيء من العقلانية والنظر والتفكير الذي دعانا له الله عز وجل احتواء هذه النصوص ذاتها -التفاسير-على ما يدلل على ما نذهب اليه، اي أن كل ما يشار له حول قصص الأنبياء وحول بني إسرائيل وحول فلسطين ليس كما هي الرواية الشائعة والتي طغت بل وقُدّست حتى اعتبرت هي والقرآن واحد .
يمكننا القول أن لدينا خمسة أسباب لعرض كتابنا الأخير: أساطير اليهود وأرض فلسطين في القرآن الكريم.
الأول: أننا نفرق بين اليهودية كديانة، اعتنقتها العديد من القبائل، ثم من شعوب العالم، ومنهم بعض قبائل العرب، وبين مفهوم القوميات، ونفرق بين حربنا العادلة ضد العقلية والسلطة الصهيونية التي تحتل أرضنا والحركة الاستعمارية الغربية التي غرستها في بلادنا، وبين رفضنا لتديين الصراع القائم حاليا.
الثاني:لا نشك أن هناك إدخالات توراتية أسطورية خرافية على تراث المسلمين (والمسيحيين) لا تمت للحقيقة بصلة مهيمنة على عقلنا وجب التصدي لها من ذات التفاسيرالاسلامية للقرآن الكريم التي لا تمتلك قداسة، بل هي قابلة للأخذ والرد سواء من زاوية جغرافية أو تاريخية أو لغوية أو انثروبيولوجية أو استنادا لغيرها من العلوم.
لذا وجب علينا التوضيح بروية (كما فعلنا في كتابنا) لمعان قرآنية كثيرة من مفاهيم (الملكية) وحقيقة (الأرض المقدسة أو المباركة) و معنى (كتبها الله لكم) ومعنى (الوراثة للأرض) و(الملوك) وحقائق قصص الأنبياء خاصة موسى وداوود وسليمان مما هو الحقيقة الناصعة لا التفسيرات أو التاويلات المستندة للتوراة.
الثالث:أن المساعي التي تفترض الربط بشكل تطابقي بين قصص القرآن المحكم، وبين أكاذيب وأساطير التوراة كما يفعل بعض الجهلة من المسلمين اليوم، وبعض المواقع الاسرائيلية على الشابكة (انترنت) التي تقرر أن القرآن أعطى فلسطين لليهود!؟ حاشا لله ذلك، يجب الرد عليها بالحقيقة العلمية والقرآنية الناصعة، ويجب الرد عليها عليها بتفسير ما أشكل فهمه لدى الكثيرين من آيات القرآن، أي تفسيره بشكل صحيح يصدم التأويلات الشعبية الشائعة لضعف اللغة عند الغالبية، أولعدم التعمق والجهل بطغيان العقلية الماضوية النقلية الاتباعية بلا تمحيص.
الرابع: يجب التعاطي برفق مع الوعي العربي الإسلامي الجمعي (وكذلك المسيحي) ليصل مرحلة يستطيع فيها أن يفصل بين قداسة القرآن الكريم، وقداسة النص العقدي، وبشرية التفاسير له التي تحتمل الصواب والخطأ، وتحتاج لمراجعات علمية، بل ومن حسن الحظ أن فيها (هذه التفاسير) من الاحتمالات للروايات ما تجعلنا نتنوع ونتخير منها استنادا للتفكر والعلم الحديث، وفيها ما يؤيد ما ذهبنا اليه أيضا من تصحيح للرواية.
الخامس: في ظل الأبحاث الحديثة والعلوم الحديثة التي دحضت وفنّدت أكاذيب قصص التوراة، وجب تنزيه القرآن الكريم من الصِلة بخرافات التوراة من جهة، بل وتأكيد التوقف عند حدود القصة القرأنية كما جاءت دون أي توسع بلا سند، ودون محاولة تفسيرها بالاسرائيليات أو الاستناد لأي أساس توراتي أو غربي مزور، فيتضح لنا ولكم بجلاء أن لا صلة لليهود أو للقبيلة قبيلة بني اسرائيل العربية المنقرضة قديما بأرض فلسطين وجغرافيا فلسطين اليوم بوضوح نجده في الدراسةالكتاب، فكيف يكون هناك أي صلة لهؤلاء اليوم من أتباع اليهودية من القوميات المتعددة؟
لقد جعل اليمين الاسرائيلي اليوم أقاصيص التوراة وخرافاتها كائنا حيا يعيش بيننا فلا تكاد تجد تصريحا ل(نتنياهو) أو أي من أتباع اليمين الاسرائيلي والا ويعود للرواية التوراتية وكأنها سند قانوني أو كأنها تشكل حق طبيعي لاغتصابهم أرضنا، ويحاولون فرض الرواية الخرافية على العالم، كما نجحوا بتغيير الأسماء على أرضنا، بتدمير التاريخ والحجر، وكما يعملون على محو الذاكرة وإعادة إحياء الأسطورة والأكاذيب من قعر التاريخ المظلم فيعيدوا نسج الخيالات كما سبق وفعل الكهنة.
إن التصدي للاحتلال الصهيوني لا يتوقف عند حد المقاومة الميدانية الهامة والضرورية، وتلك القانونية او السياسية الدبلوماسية وما ترتبط به من الاعلامية، وانما يجب أن تشتمل على تأكيد الحق التاريخي والطبيعي لنا في أرضنا منذ الأزل، وإبراز العدالة واكتشافات العلوم الحديثة، وطرق التفكير العقلانية فيما نسعى به لفضح الأسطورة التناخية، وتأكيد روايتنا الحقيقية بعيدا عن غث المرويات التوراتية في تفاسيرنا وكتبنا كمسلمين، وهذا ما نسعى له، فهذا نضال أوجبه الله علينا بالتفكر والتدبر والتبصر، وأوجبه حق فلسطين علينا، وأشعله مجددا في كفاحنا المستمر ضد المحتل الذي يُمعن في سرقة أرضنا، وتغول اليمين الصهيوني.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها