كثير من القيادات والمراقبين يكاد قلبه يقفز من صدره حين ترد عبارة "تراجع القضية الفلسطينية". ويعتبر هؤلاء بأن هكذا تشخيص فيه تطاول على إنجازات القيادة او استهداف لها للإنتقاص من مكانتها. وللأسف مثل هذه القراءة فيها تبسيط، وإبتعاد عن المحاكاة المنطقية للواقع الذاتي والموضوعي. وفيها ايضا هروب من وضع اليد على الجروح ونقاط الضعف الماثلة للعيان.

من حيث المبدأ القضية الفلسطينية والمشروع الوطني برمته تعرض لهزات سياسية خطيرة بعد التوقيع على إتفاقية كامب ديفيد المصرية الإسرائيلية 1978/1979، التي شكلت منعطفا حادا في مسار القضية الفلسطينية وحركة التحرر العربية برمتها. وضربت ركائز العمل العربي المشترك، ومزقت على الملأ الحد الادنى من التكامل العربي العربي، حينما وافق الرئيس السادات على الانخراط في مسار المفاوضات الثنائي مع إسرائيل مباشرة، وبالتالي فصل المسارات العربية عن بعضها البعض. ثم اجتياح إسرائيل عام 1982 للبنان الشقيق، الذي هدف لتصفية منظمة التحرير لبفلسطينية. ورغم انه فشل فشلا ذريعا نتيجة الصمود البطولي للثورة الفلسطينية والقوات المشتركة اللبنانية الفلسلطينية طيلة 88 يوما، وتلا ذلك حرب المخيمات 1985/ 1987، التي ادارها نظام حافظ الاسد على مخيمات بيروت الفلسطينية من خلال حركة أمل اللبنانية. وبعدها مباشرة جاءت قمة عمان 1987، التي كادت لا تذكر القضية الفلسطينية. وخلال ذلك كانت حرب الخليج الاولى الإيرانية العراقية، التي كانت استنزافا لطاقات العرب والمسلمين، وما تبعها من حرب الخليج الثانية بعد إحتلال الكويت في آب/أغسطس 1990. بينهما جاءت الانتفاضة الكبرى 1987/1993، التي شكلت رافعة وطنية عظيمة، وصدت كل الهجمات الإسرائيلية والاميركية ومن تساوق معها من بعض العرب الرسميين. ثم التوقيع على إتفاقية أوسلو 1993، الذي خرج من رحم مؤتمر مدريد، وما استهدفه ذلك المؤتمر للقضية، حيث شاء استغلال الشرط العربي الرسمي المتشظي للانقضاض على القيادة والمشروع الوطني. ومن ثم الانقلاب الحمساوي على الشرعية الوطنية، الذي شكل رأس حربة لهجوم الإخوان المسلمين على نظام الدولة الوطنية بالتوافق مع الرؤية الاميركية، الهادفة لبناء الشرق الاوسط الكبير ..

ولا اريد ان ادخل في تفاصيل اوسلو والمركبات المعقدة، التي نجمت عنه، وتركت بصماتها على القضية برمتها. غير ان تلك التراجعات في الشرطين القومي والدولي، لم تلغِ الإيجابيات، التي تحققت على الصعيد الأممي وخاصة رفع مكانة فلسطين لدولة مراقب في الامم المتحدة نوفمبر 2012، والمبادرة الفرنسية الحالية، والانضمام لعشرات المنظمات والمعاهدات الاممية وخاصة محكمة الجنايات الدولية، وحتى هبة إكتوبر 2015، والمضي الان نحو عقد مؤتمر حركة فتح، ثم عقد المجلس الوطني ... إلخ

لكن إذا توقف أي مراقب وطني او قومي او اممي امام المشهد الفلسطيني في خطه البياني، يلحظ بالعين المجردة التراجع في مكانة القضية الفلسطينية. وهذا لا ينتقص من الايجابيات، او يضعفها او يسيء لدور القيادة. بل العكس صحيح، هذا التشخيص لا يهدف لعملية هدم الايجابيات، بل يريد تصليبها، والعمل على تطوير الانجازات الوطنية. اضف إلى ان القيادة الحكيمة والشجاعة، هي اول من يقوم بتشخيص السلبيات والايجابيات المرتبطة بمسيرة العمل الوطني، وإستخلاص الدروس والعبر من كل محطة من محطات النضال الوطني. ولا تخشى القول والاعتراف بصوت عال، ان الواقع الفلسطيني هذه هي محدداته، له ما له، وعليه ما عليه. هذه الايجابيات وتلك النواقص. وهنا المراقب الموضوعي سيعترف بالدور الشجاع للقيادة، التي مازالت واقفة بقوة امام شراسة الهجمة الاسرائيلية الاميركية والاخوانية. ووجود اية ثغرات او نواقص لا يلغي الإيجابيات وقوة الارادة الوطنية.

والاهم من ذلك، على اي إنسان فلسطيني يؤمن بالديمقراطية وبحرية الرأي والرأي الآخر، ان يفتح صدره للإستماع لوجهات النظر الأخرى أي كانت خلفياتها. لا ان يرفض مجرد الإصغاء لها، وتفحص معطياتها واسبابها. ويأخذ منها ما يراه مناسبا، ويرد على اي تحامل او مغالاة من هنا او هناك تستهدف الانتقاص من التجربة الوطنية والقيادة الفلسطينية. فهل يدرك اولئك الأشخاص خطأ تشخيص مفهوم التراجع الذاتي والموضوعي للقضية الفلسطينية، ويعيدون النظر في رؤاهم غير الواقعية؟