الحدث الحاسم في تاريخ فلسطين المعاصر، أي منذ مئة عام تقريباً، كان انتقال السيادة على فلسطين من السيطرة العثمانية إلى الإحتلال البريطاني. ومن مشاهد تلك الحقبة مشهد دخول الجنرال اللنبي إلى القدس في سنة 1917 بكل العنجهية العسكرية البريطانية ومنذ ذلك الوقت خضعت مدينة القدس، وفلسطين كلها، لصراع متمادٍ لم تنتهِ تفصيلاته بعد. وقد كافح الفلسطينيون طويلاً لاستعادة سيادتهم على بلادهم، وخاضوا انتفاضات مسلحة وثورات شاملة لهذه الغاية، غير أن رياح المصالح الدولية وموازين القوى العسكرية وغير العسكرية المائلة لمصلحة المشروع الصهيوني آنذاك أدت إلى سقوط معظم فلسطين بأيدي الحركة الصهيونية، واحتلال الشطر الغربي من القدس في سنة 1948 الذي يضم أحياء عدة مثل البقعة والقطمون والطالبية. وفي 11/12/1949 نقلت اسرائيل مقر الكنيست من تل أبيب الى القدس الغربية، ثم أعلنت ان القدس صارت عاصمة أبدية لها في 23/1/1950. وفي 7/6/1967 احتل الجيش الاسرائيلي الشطر الشرقي من المدينة؛ وبهذا العدوان جرى توحيد المدينة بقوة الاحتلال. واستمرت الحال على ما هي عليه إلى أن أقدمت اسرائيل على اعلان ضم القدس الشرقية في 30/7/1980.
الصراع على القدس هو صراع على الأرض أيضاً وعلى السيادة بمفهومها الواسع وهو في الوقت نفسه صراع على الرموز السيميائية وعلى الرواية التاريخية في آن. وتتطلع اسرائيل، منذ أن دمجت القدس الغربية بالقدس الشرقية، الى تغيير المشهد العام للمدينة ليصبح مشهداً يهودياً. فها هي ترفع العلم الاسرائيلي على قمة جبل الزيتون وهو أعلى ذروة في القدس، بحيث تمكن مشاهدته من جميع أماكن المدينة. وعمدت، فوق ذلك، إلى نصب الشمعدانات اليهودية (المينوراه) في أماكن كثيرة، وبنت كنيس حوربا، وجعلت له قبة عالية تحاكي قبة الصخرة وقبة كنيسة القيامة كي يبدو مشهد الكنيس عادياً لمن يجهل تاريخ القدس، ثم رفعت الاعلام الاسرائيلية فوق كنيسة المسيح التي بنيت في سنة 1848، والتي تديرها جمعية انجيلية تؤمن ليس بحق اسرائيل في الوجود فحسب، بل بسيطرتها على فلسطين كلها كتمهيد عقيدي لعودة المسيح ومجيئه الثاني. ولم تكتف السلطات الاسرائيلية بهذه الافعال وحدها، وإنما حوّلت قلعة القدس الى متحف لتاريخ المدينة من وجهة نظر يهودية.
الحقيقة الضائعة
في 13/10/2016 اتخذت منظمة الامم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (الاونيسكو) قراراً ينص على أن المسجد الاقصى والحرم القدسي بكامله يعود الى المسلمين، وأن باب الرحمة وطريق باب المغاربة والحائط الغربي (البراق) وساحة البراق هي أجزاء من الحرم. وهذا القرار جاء ليؤكد ما هو مؤكد في التاريخ الصحيح للمدينة. غير أن اسرائيل أثارت ضجيجاً وصخباً ضد هذا القرار لسببين : الأول لأنه سمّى الاماكن المقدسة بأسمائها العربية لا بإسمائها اليهودية المزورة مثل "الحائط الغربي" الذي يطلق الاسرائيليون عليه اسم "حائط المبكى". والثاني لأن غضباً اعتراها جراء موقف كل من فرنسا والسويد والهند والارجنتين التي دأبت على التصويت الى جانب اسرائيل في مثل هذه الحال ومهما يكن الأمر فإن التضليل الاسرائيلي وتزوير التاريخ لا يمكنهما أن يصمدا طويلاً أمام الحقائق العلمية القاطعة، حتى أن علماء الآثار الاسرائيليين أمثال زئيف هيرتسوغ ويسرائيل فنكلشتاين ونيل سيلبرمان ونداف نئمان لا يترددون في القول إن علم الآثار الاسرائيلي يبرهن يوماً بعد يوم أن قصص التوراة مجرد حكايات شعبية، وأن الاسرائيليين القدامى لم يوجدوا في مصر قط، ولم يتيهوا في صحراء سيناء، ولم يفتحوا الارض الفلسطينية في حملة عسكرية، ولم يورِّثوها لأسباط بني اسرائيل الاثني عشر، وأن مملكة داود وسليمان ليست، في أحسن أحوالها، إلا مملكة قبلية صغيرة، مع أن الحفريات، بعد أكثر من 70 سنة من الاستكشاف، لم تبرهن عن وجود مثل هذه المملكة، وكثيراً ما أدعت السلطات الدينية اليهودية والسلطات السياسية الاسرائيلية أن حائط البراق هو جزء من مدينة داود المحصنة. وتبين أن هذا الحائط الى الحقبة التاريخية المفترضة لوجود داود أما "الرمانة العاجية" التي روّجت لها اسرائيل وكثير من الحاخامات على أنها الأثر الوحيد من هيكل سليمان، فقد جرى البرهان في سنة 2004 أنها لا تعود الى الزمن المفترض لسليمان، بل الى العصر البرونزي، أي أنها أقدم بكثير من عهد سليمان بن داود في هذا الميدان من الصراع على المكان وعلى الرواية التاريخية، بات واضحاً ان الحفريات الاسرائيلية هدفها ايجاد رابط بين فلسطين والعهد القديم (التوراة وتوابعها من الاسفار والرؤى والنبوءات). وبهذا المعنى ليست التوراة تاريخاً تحوَّل الى اساطير وحكايات بل هي خيال وروايات منحولة تحولت، رغماً عن العلم، الى تاريخ مضلِّل ومقدس لدى كثيرين.
الذاكرة الكتبية
لا علاقة لليهود القدامى والمحدثين بالقدس على الاطلاق، ولم يتم البرهان علمياً على صحة هذه الفرضية التي تندرج في سياق العقيدة الدينية ليس الا. ومع الاسف، فإن كثيراً من المؤرخين المسلمين فضلاً عن كتاب بلا بصيرة أو تبصر يسلِّمون بالروايات الواردة في المصادر التاريخية ذات المصدر التوراتي، ويسندونها بالآية القرآنية التالية: " يا قوم، أدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين" (المائدة: 21)، وهذا أمر في غاية الخطورة لأن ذاكرة هؤلاء الكُتّاب ذاكرة كُتبيةُ شحيحة المعرفة، فهي تقتبس النصوص من دون مساءلتها أو التمعن بها أو تفكيكها. ففي علم التاريخ ينبغي تفكيك الروايات استناداً الى مناهج التحقق والمقابلة والجرح والتعديل وعلم الآثار. وحتى في دراسة النصوص الدينية يجب الاتكاء على الانثروبولوجيا ومقارنة الديانات. وفي هذا الحقل المعرفي يلاحظ أن آباء الصهيونية أنفسهم لم ينظروا الى القدس أو الى "أرض الأسباط" نظرة كُتُبية على الاطلاق، وراوغوا العقائد اليهودية بل واجهوها بصراحة ووضوح، ورأوا في كتب اليهود كالتوراة أو التلمود مجرد فلكلور قومي يهودي لا كتباً مقدسة. وفي هذا المجال يقول تيودور هيرتزل مؤسس الحركة الصهيونية العالمية وصاحب الكتاب التأسيسي "دولة اليهود" ما يلي: "إن الدين اليهودي لا يهمني، بل ما يهمني هو الاسطورة الجبارة للعودة"، ويقصد بكلمة "العودة" ترحيل اليهود من ديارهم الأصلية في أوروبا الى فلسطين تنفيذاً للمشروع الصهيوني الذي كان قبل مئة سنة جزءاً من المشروع الاستعماري البريطاني للتخلص من المشلكة اليهودية في أوروبا وضمان السيطرة على الطريق الى الهند عبر برزخ السويس.
سياسات وعقائد
الفكرة المتداولة في أوساط اليمين الديني المتطرف في اسرائيل هي أن تدمير المسجد الاقصى سيؤدي الى خروج ياجوج وماجوج، وهو شرط مسبق لمجيء المسيح، وهي فكرة خرافية تماماً. ويعتقد هؤلاء المتطرفون (الحريديم) أن هيكل سليمان كان موجوداً في المكان نفسه الذي يقع فوقه المسجد الاقصى لكن علماء الآثار الاسرائليين لم يتمكنوا من العثور على أي خشبة أو حجر منقوش عليهما اسم داود أو سليمان في نحو 300 موقع تجري فيها أعمال الحفر. ومع ذلك أن فكرة اعادة بناء هيكل سليمان وهي فكرة دينية قديمة، اتخذت طابعاً عملياً فور سقوط القدس في أيدي الجيش الاسرائيلي في سنة 1967 عندما نفخ حاخان الجيش شلومو غورين في البوق ( الشوفار) احتفالاً بالنصر إيذاناً ببدء عملية إعادة بناء الهيكل، وعندما صرخ مردخاي غور قائد اللواء الذي احتل القدس قائلاً: "جبل الهيكل في أيدينا". وهذه العبارة صارت شعاراً لكثير من الجماعات اليهودية المتطرفة التي تستعد لهذه الخطوة أمثال "أمناء جبل الهيكل " و "حركة بناء الهيكل " و "جمعية جبل الرب" و "جمعية حراس اليهكل" و "حركة حي وقيوم" و "جماعة ريفافا "و " مجموعة بات عاين". فهل يستطيع قرار الأونيسكو حماية القدس، أو الحرم القدسي في الحد الأدنى، من خطط المجموعات اليهودية المنفلتة من عقالها والاجرامية بكل ما لهذه الكلمة من معنى على غرار عصابة لفتا وحركة كهانا حي؟
إن قرار الأونيسكو مهم جدا في معمعان الصراع على المكان والتاريخ والرموز. لكن في نهاية المطاف، لن يحمي أحد القدس وغيرها إلا إرادة الثبات والتصدي لدى الفلسطينيين في الداخل والخارج معاً.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها