انتهى موسم الشتائم، تأجل أو ينتظر فرصة سانحة ونموذجية، هو دأبنا عندما لا يلتقي هوانا والآخر الذي يعمل وفق رؤيته وحساباته التي تمثل المصلحة العامة أو تختصرها.
من صفات الشتَامين الذهاب إلى أقصى درجات المبالغة، بحيث يصبح- حسب وجهة نظرهم- مبرّرًا وواجبًا أن يشتموا من خالف الهوى وحادَ عن المسار- مسارهم- الذي يمثل الخيار الذي لا شكّ في صحته.
والشتّام يستحضر إيقاعي العاطفة والمصلحة كي يعبّر عن فعالية الشتيمة وضرورتها. كلامه يقين... لا يقبل الشكّ والإلتباس. هو العالم الذي لا يضاهيه أو ينافسه عالم أو خبير بأمور السياسية ومنعرجاتها الكثيرة.
لكن للقائد حساباته، ونظرته المختلفة التي قد تختلف وتلتقي مع هوى هذا وذاك من الخطباء والمتحدثين والناطقين باسم الأرض والسماء... وما أكثرهم في زماننا.
القائد هو الذي يقرأ المصلحة العامة ويسير وفق مقتضياتها، لا يهتمّ كثيرًا بهذا الصوت وذاك النعيق... بل يكمل السير حسبما تشير بوصلة اللحظة مانحًا نهر العطاء كمًا من التدفق والقوة.
لا يكون دعمًا أو تأييدًا لقضية ما عندما يكون مشروطًا، وعندما يُظنُّ أن المؤيّد يمُنُّ على صاحب القضيّة بمجرّد تأييده ودعمه. للأسف، غالبية من يعتقدون أنهم يدعمون أو يؤيدون القضيّة الفلسطينية، يضرّونها أكثر مما ينفعونها، ويزيدون عليها الأعباء أكثر كثيرًا مما يخففون. ففي السياسة لا مكان للعاطفة. في السياسة لا مكان لمراعاة الخواطر وتبويس اللحى. هي مسارات وخيارات ومواقف تأخذ الحرب والسلم بيدين اثنتين لا بواحدة. وتتعامل مع العدو والصديق من خلال المساحةِ البيضاء في منتصف الميدان. نعم المساحة البيضاء لا السوداء ولا الرمادية، حيث للأسف الكثيرون يلوثونها ويوسخونها بفضلاتِ المواقف ونفاياتِ الأحاديث.
الشعب الفلسطيني لا يحتاج إلى منظّرين ومتشاطرين، بل إلى داعمين حقيقيين، لا يثقلون عليه ويزيدون أعباءه ويلهونه هنا وهناك بالفذلكات الصاخبة... التي تشبه الرعد الذي لا يليه مطر.
ولمن يعلم أو لا يعلم: أبو مازن رئيس الشعب الفلسطيني ومختصر شرعيته. قراءة هذا الرجل يجب أن تتمّ من خلال هذه القناعة. ومن خلال مساحة الحريّة التي يتحرّك وسطها دون إملاء أو شرط. إنه محل ثقة الشعب الفلسطيني، أو غالبيته... مع أن الواقع كشف لنا بالملموس كم نحن متطلبون وضيّقو الأفق عندما نتصوّر القائد على مقياس أمنياتنا، يستجيب لما تنتجه رغباتنا ونظراتنا للأمور.
لماذا يحق للرؤساء والقادة اتخاذ خياراتهم ومواقفهم دون تردّد باستثناء الرئيس الفلسطيني؟ كم ذهبنا بعيدًا هنا وهناك في مواقف ومغامرات ومسارات خرّبت البيوت وأنتجتِ الويلات، فيما جريمة الرئيس الفلسطيني أنه حاول خلع بوّابة الفولاذ التي اقفلها ائتلاف الحكومة الصهيونية بوجه السلام؟
لنضع التبجّح والمغالاة جانبًا، ولننظر إلى الأمر من نافذة المصلحة الفلسطينينة... وفي زمنِ التخلي الفردي والجَماعي عن الشعب الفلسطيني وقضيّته، ولننظر إلى المسألة بالعين الصادقة الثاقبة، لا بالعين الواشية والشكّاكة: حضور الرئيس أبو مازن جنازة شمعون بيريز أحد مؤسسي الكيان الصهيوني، محاكاة صريحة وواضحة للعالم أجمع... للرأي العام في الكيان الصهيوني... للمصداقية التي اكتسبها على الصعيد الدولي ولدى الحريصين على السلام في إسرائيل والحواضن التي تشكل دائرة الدعم والمال حولها.
الكلُّ نيامٌ في مرحلة السواد العربي والإسلامي الحالك والكالح، والفلسطيني يدفع الضريبة تلو الضريبة ولا من سامع أو مهتمّ بهذا الشعب، وللأسف لا يستيقظ البعض إلا مُربِكًا ومعترضًا وشتّامًا، في حين انه لا يعطي ولا يفيد القضيّة بشيء.
لقد غادر الفلسطيني زمن البداوة، فلا قبائل لديه ولا عشائر، ومن ينظر إلى القضية بعين الثأر والإنتقام والعصبية التي لا يفيد ذلك بل يضرّ. الفلسطيني يريد العدل ودولته المستقلة المطابقة المواصفات مع القرارات والقوانين الدولية، ومن يريد تدمير إسرائيل ورمي شعبها في البحر ندعو له بالنصر، علمًا أن من يحمل هذا الخطاب ويتشدّد إلى هذا المستوى: لا يريد فلسطين ولا الخلاص لشعبها... نعم لا يريد فلسطين.
       وبرغم كل ما فعلته حماس بحق حركة فتح والآمنين في غزة، وبرغم التمادي الذي بلغ حدودًا لا يمكن وصفها في نكث الوعود والإتفاقات، وفي ترويج وفذلكة الأكاذيب والذهاب في السلوك الأرعن إلى أقصاه، وفي الخروج عن أبسط قواعد وحدود الأخلاق السياسية، وبرغم احتراف لغة الشتائم والبراعة في إنتاجها، إلا أن حركة فتح والقيادة الشرعية للشعب الفلسطيني لم تنزل إلى مستوى الخطاب الوضيع، ولم تستجب لسياسة الإستخفاف والمراهقة المتمادية في في المسارات والخيارات، بل ظلت قيادة الشعب الفلسطيني حريصة ودؤوبة على استكمال المصالحة والإستعداد لمقتضياتها الداخلية دون تردّد.
المسائل لا تكون دائما على قياس ورغبات هذا وذاك من المتكلمين والناطقين باسم هذا الشعب الملظوم والصامد الصابر. ولا تتمُّ المبادرات على أعمدةٍ دون أسس وقواعد ثابتة. فالذي جرّب الحليب المغلي ينفخ على اللبن... والذي أصابه ما أصاب الشرعيّة في غزة وغيرها عليه أولا وقبل كل شيء أن يكسب ثقة من يصالح، ويطمئن إلى نوايا من يصالح، مع أنه لا يحمل بندقية ولا ساطورًا بوجهه، إلا أن التجارب علّمت حركة فتح وعلّمتِ السلطة الوطنيّة الفلسطينية أن حماس تريد... وتريد فقط. المصالحة من وجهةِ نظرها تعني أن تأخذ فقط... وتعني أن ما لها لها وما لغيرها لها أيضًا... لم تقل يومًا عكس ذلك، ولم تتصرّف يومًا عكس ذلك. من يملك عينين تبصران عليه أن يعترف بأن: كل مبادرات المصالحة منذ اليوم الأوّل للإنقلاب المشؤوم في حزيران 2007 وحتى الآن قامت بها السلطة وفتح... دون زيادة أو نقصان. وأن محاولات التواصل والتطبيع مع القادة الحمساويين بادر إليها قادة في السلطة وفتح... دون زيادة أو نقصان.
لذلك يبدو أن أصحاب المبادرات اخطأوا عن قصد أو عن طيب نيّة عنوان المصيبة ومنتجها والمصرّ على بقائها وتأبيدها.
إن العناوين الصحيحة للدول هي قادتها ورؤساؤها. وما إنقاص قيمة هذه العناوين والنيل من مكانتها ورفعتها سوى استخفاف بهيبة القيادة ورمز سلطتها، وبالتالي استهداف متقاطع مع مصلحة العدو من اجل تهميش وإسقاط السلطة وبالتالي الإكتفاء بسلطة مبتورة- شكليّة في غزة على أنقاض ما كان سُمّي تاريخيًا بالدولة الفلسطينية. أهم دعائم وقوة وحضور أية دولة يكون باحترام رموزها والثقة بخياراتها ومواقفها. لننظر إلى الفاجعة التي تدور رحاها في العديد من الأقطار العربية التي سببها استسهال النيل من السلطة المركزية وتدمير بنيتها التحتية ومؤسساتها الضامنة لها. لسنا هنا بصدد الربط بين السلطة ومن يمثلها حصرًا ولا بصدد الربط بين رهن بقاء الدولة ببقاء رمز السلطة العتيد، بل وضع مقاييس احترام لهذا الموقع الجذري في هرم السلطة والقيادة بصفته الممثل الأعلى لرمزية الدولة، وبصفته الحلقة التي تمسك باقي حلقات سلسلة الدولة والشعب.
إن الدولة الوطنية في المنطقة أمام مخاطر التفكيك وإعادة الإنتاج على أسس وقواعد خطيرة... والدولة الفلسطينية التي تعاني من العدوان الإستيطاني المستمر وإصرار حماس على واقع ما بعد الإنقسام هي الأكثر معاناة وفي دائرة الخطر الشديد. إنها بمواجهة سابقة لا مثيل لها في تاريخ الدول الحديثة، حيث تكريس الإنقسام يمثل تساوقًا تاريخيًا مثاليًا مع مشروع الكيان الصهيوني الناكر لحق الشعب الفلسطيني في الوجود وفي إقامة دولته المستقلة بعاصمتها القدس... التي أكدت منظمة اليونيسكو خلوّها من أية آثار تدل على يهوديتها... بل أكدت أيضًا هويَّتها العربية والإسلامية.