بقلم: رفعت شناعة
افتتاحية مجلة "القدس" العدد 329 اب 2016
إنَّ المشروع الوطني الفلسطيني اليوم في خطر، والثوابت الوطنية الفلسطينية أمام تحديات هائلة، ومعادلاتُ الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي إقليمياً ودولياً بدأت تذهب في اتجاهاتٍ خطيرة.
وفي الوقت الذي ما زالت فيه الحروب والنزاعات تستعر في الأقطار العربية ذات الانتماء القومي، وذات العلاقة الجذرية والعضوية بالقضية الفلسطينية، والتي كانت تشكّل مراكز ثقل تهدّد الوجود الإسرائيلي في المنطقة، أصبحت اليوم تبحث عن إمكانية البقاء كأنظمة بعيداً عن التقسيم، وهيمنة القوى الاستعمارية، وأصبحت أراضيها تشهد حرباً يمكن تسميتها حرباً عالمية مصغَّرة. وأمام الدمار، والنزيف، وانعدام الحياة، وغياب الأمل برحيل المتحاربين، أو الأمل بلقاء أهل البيت الواحد على أرض الآباء والأجداد، فإنَّ فلسطين وقضيتها وشعبها اليوم تبكي الحاضرَ المؤلم، وترتعد من المستقبل المرعب، وتتحسَّر على الماضي الذي كان مضيئاً رغم همومه، إلاَّ أنه يحمل في طيّاته نسائم الأمل، وعنفوان الانتماء للقضايا القومية، ويشكِّل مصدر رعب للاحتلال الصهيوني، ويعطي غطاءً من الهيبة والقوة، والمَنعة للقدس وأقصاها. لقد كان التقسيم الزماني والمكاني للأقصى مجرد تفكير خيالي، أمّا اليوم فقد تغيَّرت الأحوال، في ظل حالة الوهن والعجز، والمسارعة إلى التطبيع، واسترضاء الكيان العنصري الغاصب، فإنَّ المشاريع الصهيونية التي كان يحلمُ بها الصهاينة لكنّهم كانوا يستبعدونها، أصبحت اليوم جزءاً من الواقع الملموس، ويتم فرضها على أرض الواقع بالقوة العسكرية، وبالإرهاب، والقمع، وبالإعدامات العلنية، والجرائم اليومية، وتدمير البيوت، وحرق العائلات في المنازل، وتهجير أبناء القدس، أو إبعادهم، والتضييق على الأهالي، والتُّجار، وأصحاب رؤوس الأموال، وباختصار التسريع بتهديد القدس بكل تفاصيلها، تمهيداً لإعلانها عاصمة الكيان الإسرائيلي الذي اغتصب الأرض منذ التقسيم بل منذ وعد بلفور.
ورغم التطورات المذهلة على كافة الأصعدة إقليمياً ودولياً والتي عبَّر الكيان الإسرائيلي وحكومته المتطرفة عن الارتياح لها، لأنّها ساعدت نتنياهو بإيجاد غطاء سياسي ليبطشَ كما يشاء بكل المكونات الفلسطينية، بما في ذلك الخيارات السياسية التي عملت القيادة الفلسطينية على تثبيتها للوصول إلى إزالة الاحتلال، وإقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، وضمان تنفيذ القرار 194.
رغم هذه التحديات التي تواجهها اليوم قيادة "م.ت.ف"، فإنّها ترفض التنازل عن أية ثوابت فلسطينية، وتحرص كل الحرص على وحدة الصف في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، وتعمل على تعطيل كل مشاريع ومحاولات إشعال الفتن الخارجية، وقيادة هذه الحركة العملاقة حركة "فتح" الرائدة لم تخضع ولم تركع، ولم تساوم، وإنما هي اليوم تدفع ثمنَ مواقفها الصلبة والمبدئية، وتتحمّل تبعات هذه المواقف الرافضة للابتزاز من حيث الحصار المالي الذي قلَّص حجم المنح المالية التي تُقدَّم للسلطة إلى 30% بعدما كانت 100%.
أمام هذا الصراع المحتدم والمعركة الطاحنة مع الاحتلال الإسرائيلي، وأمام هذه المواقف التاريخية لقيادة حركة "فتح"، والتي يجسِّدها سيادة الرئيس أبو مازن بصلابته، وانتمائه الوطني وأصالته الفلسطينية والفتحاوية يُفاجئنا الدكتور الزهار القيادي في حركة حماس بتصريح له لا يخدم العمل الوطني الفلسطيني، ولا يحمل الانتماء الفلسطيني الحقيقي المعني بتصليب الجبهة الفلسطينية الداخلية بوجه الاحتلال الصهيوني. يقول الدكتور الزهار: "فتح انتهت على مستوى الوطن والمشروع الوطني، وهي خارجة عن الإطار الحقيقي لها كحركة تحرُّر وطني، كما أنَّها تريد أن تلعب اليوم في موضوع القدس والبلديات وغيرها".
آملُ أن يكون هذا التصريح يعبِّر عن أفكار قائله فقط وليس عن موقف قيادة حركة حماس كإطار.
مِن الواضح أنَّ الدكتور الزهار ينعى حركة "فتح" ويحلم بإقصائها، لأنَّه بكل وضوح يعتبرها عقبةً أساسية بوجه حركة حماس وتطوراتها وبرامجها السياسية والأمنية والعسكرية، ولا يخفى على القارئ أنَّ عملية الإقصاء هذه بدأت علناً وبعنف في الانقلاب الذي تمَّ في 14/6/2007، ومازالت هذه العملية تجري بشكل أو بآخر هنا وهناك مع تداعيات سلبية وتدميرية.
نحن نُطمئِن الدكتور الزهار عضو المكتب السياسي لحركة حماس بأنَّ حركة "فتح" التي أُنشئت العام 1959، وانطلقت العام 1965 أي قبل وجود حركة حماس بخمسٍ وعشرين سنة هي بخير، وهي العمود الفقري لمنظمة التحرير الفلسطينية، وهي الحاضنة للمشروع الوطني الفلسطيني، وهي المؤتمَنة عليه، ولا تسمح لأحد أن يفرِّط به، وهي التي حملت المشروع الوطني ومتاعبه، وتصدَّت للمخاطر التي واجهته. ومن باب التذكير نقول: إنَّ حركة "فتح" حركة وطنية فلسطينية بوصلتها النضالية دائماً موجّهة إلى فلسطين وليس إلى غيرها، ولذلك هي ترفض الصراعات الداخلية، والنزاعات الجانبية، وتعتبر أنَّ الصراع فقط هو ضدَّ العدو الصهيوني وحلفائه، وتأبى جرَّها إلى نزاعات سياسية، أو طائفية، أو مذهبية، أو إقليمية، أو حزبية.
إنَّ حركة "فتح" في مقابل تصريحات الدكتور الزهار تصرُّ على مواقفها المعلَنة والصريحة بأنَّ حركة حماس هي جزءٌ لا يتجزّأ من النسيج الوطني الفلسطيني، وهي فصيل فلسطيني، وجزءٌ من الساحة النضالية الفلسطينية منذ الانتفاضة الاولى العام 1987. وتكريساً لهذه القناعات التي تعلّمناها في مدرسة الرمز ياسر عرفات فإنّنا نرفض نكأ الجراح، وكنا أول مَن سعى إلى إنهاء الانقسام، وتقديم التنازلات من أجل فلسطين، وعضَضنا على الجراح من أجل أن ننسى الماضي، ونكون معاً في جبهة مواجهة واحدة ضد الاحتلال الإسرائيلي، وكنا الأجرأ دائماً في المواجهة السياسية، والحرص على الثوابت، فرفضنا فصلَ قطاع غزة عن الضفة الغربية لأنَّ الوطن واحد، وأصرَّينا على إنهاء الانقسام، لأنَّ العدو الإسرائيلي هو المستفيد من الانقسام، وتمسَّكنا بإجراء الانتخابات كاملة في الوطن كله العام 2006، وخاصة في القدس، ونحن الذين رفضنا الطلب الإسرائيلي بأن تجري الانتخابات في الأراضي الفلسطينية باستثناء القدس، بينما غيرنا وافقَ على استثناء القدس من الانتخابات بناءً على رغبة الاحتلال باعتبارها عاصمة الكيان الصهيوني وليس عاصمة فلسطين.
نحن نريد طمأنة الدكتور الزهار بأنَّ تقديراته، ومخاوفه، وتمنّياته ليست في مكانها، فحركة "فتح" حركة وطنية أصيلة، أسَّسها قادة الثورة الفلسطينية الأوائل، والذين هم طليعة الأُمّة، نهضوا وانطلقوا، ولم يستأذنوا أحداً، وخاضوا الكفاح المسلَّح، وقاتلوا في كل الساحات، وصمدوا في كل المعارك والمحطات، وقدَّموا عشرات الآلاف من الشهداء الذين نزفت دماؤهم على كل الجبهات، ويشهد على ذلك الآلاف من الجرحى، ونحو 60% من الأسرى المعتقلين هم من أبناء حركة "فتح" في معتقلات الاحتلال.
على الدكتور الزهار أن يعيد حساباته جيداً، وأن يعيد النظر في تصريحاته العشوائية، وأن لا يتطاول على كرامة أهم وأبرز فصيل فلسطيني بدأ الثورة، وحمى المسيرة، وحافظ على القرار الوطني الفلسطيني المستقل بيَد القيادة الفلسطينية - ولم يعرِضه في المزاد العلني لـمَن يدفع اكثر – رغم جوعنا، وحصارنا، واستهدافنا.
نحن مستمرون، واثقون من أنفسنا، ولن تهزّنا مثل هذه الأراجيف، أو الكلمات المسمومة فارغة المضمون، ولن ننظر الى الوراء، فأبواب المستقبل مفتوحة أمامنا.
ومِن حقّنا أن نذكِّر بأنّ جبهة التحريض والتشكيك، وإثارة الفتن والأحقاد التي يثيرها البعض في مثل هذه التصريحات هي مِن أهم الجبهات المعادية لحركة "فتح" والتي يعتمد عليها الاحتلال الصهيوني.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها