دون مقدمات، وفي خطوة أقرب إلى القفزة الدراماتيكية قرر الرئيس بوتين سحب القوات الروسية من سوريا. الامر الذي اثار ردود فعل متباينة وقراءات متعددة للخطوة الروسية. أغلبها اتسم باعتبار الانسحاب في اللحظة السياسية الراهنة، شكلا من اشكال التخلي عن الرئيس بشار الاسد، نتيجة بروز خلافات بين القيادتين السورية والروسية؛ ورأي ثان افترض ان الخطوة الروسية فاجأت الولايات المتحدة؛ ورأي آخر اعتقد ان القرار غامض؛ وقراءة رابعة قالت ان ما تم لم يفاجئ احدا، وهو الادق.

الاجتهادات حول الخطوة الروسية كثيرة، الثابت فيها القرار الروسي نفسه بالانسحاب من حلبة الصراع المعلن إلى حين ووفق ما تمليه المصالح الروسية. غير ان القرار وفق مصادر عليمة لم يكن مفاجئا لا للرئيس الاميركي وادارته ولا للرئيس السوري ونظامه، بل تمت الخطوة بالاتفاق والتنسيق مع القيادتين السورية والاميركية. وجاءت في الوقت المناسب، لا سيما ان مؤتمر جنيف لحل الازمة السورية بشكل سلمي بدأ اعماله يوم الاربعاء الماضي. والانسحاب الروسي جاء ليعطي اطراف الحوار في سويسرا قوة دفع إضافية. اضف الى ان ما حدث يتوافق وآليات العمل والقوانين الروسية.

لكن النقلة الروسية، لا تعني ان روسيا الاتحادية انسحبت من حلبة الصراع الدائر هناك، ولا سحبت كل قواتها من سوريا، لان قاعدتي "طرطوس" و"حميميم" ما زالتا موجودتين على الاراضي السورية؛ والجزء الاكبر من القوات متواجد فيها. وبالتالي الانسحاب بالمعايير الدقيقة للكلمة، هو انسحاب شكلي. لان جل القوة الروسية المتواجدة في سوريا، هي قوات جوية، ولا يوجد قوات برية هناك. لا سيما ان اغلب المناطق، التي تم تحريرها من قوات الجماعات التكفيرية، سلمت للجيس السوري. ولم يتم الاعلان عن الانسحاب الروسي إلا بعد ان حقق خطوات هامة على صعيد إضعاف وتفكيك التنظيمات المسلحة من جيش الموحدين ولواء التوحيد والجيش الحر وغيرها من المسميات. وايضا بعد ان تم تطهير المدن والبلدات من تلك الجماعات في الشرق والغرب والوسط والشمال، وفرض السيطرة والتواصل للقوات السورية فيما بينها.

ولا يعني الانسحاب الروسي من سوريا الان، بانه تخلٍ روسي عن سوريا. لان القيادة الروسية ابلغت الولايات المتحدة وغيرها من الدول ذات الصلة، بانها لن تسمح لاي قوة بالعبث في العملية السياسية او استغلال الانسحاب للتمدد هنا او هناك. والرسالة موجهة بالاساس لتركيا وبعض العرب ومجموعاتهم التكفيرية. واذا استدعت الضرورة العودة للتواجد مجددا بشكل مكثف لن تتردد روسيا بالقيام بذلك.

مما تقدم يلحظ المراقب ان القرار الروسي لم يأت نتيجة ردود فعل متسرعة او بسبب الخلاف مع هذا الطرف او ذاك. كما لم تتخل ولن تتخلى روسيا الاتحادية عن مصالحها في سوريا ودول الاقليم والوطن العربي. ولم يقدم القيصر بوتين التضحيات ولم يرصد كل تلك النفقات المالية واللوجستية والعسكرية والثقل السياسي والدبلوماسي، كي يترك الميدان لاي قوة اقليمية او عالمية. بالتالي الخطوة الروسية جاءت بالتزامن مع بدء جلسات مؤتمر جنيف لتفتح الافق لنجاح المفاوضات السورية السورية، وبعدما حققت الهدنة الجارية على الارض السورية نجاحا ملحوظا، وبالتفاهم والتوافق مع القيادة الاميركية ونظام الاسد الابن، واولا وثانيا وعاشرا وفقا للمصالح والحسابات الروسية. وبعدما باتت اليد الطولى على الارض للنظام السوري وليس لاحد غيره.