ليس عبثًا أن تطلق الدعوات من الرئيس الأميركي لتهجير الفلسطينيين من غزة بعد التدخلات التي سعى فيها إلى اتفاق وقف إطلاق النار والإعلان عن الهدنة بين حركة حماس وإسرائيل قبل تنصيب الرئيس الأميركي في البيت الأبيض، وليس حسن النوايا والاستجابة للمبادرة العربية هو من أطفأ تلك الشعلة. فالإدارة الأميركية مشاركة تمامًا في مباحثات الهدنة في غزة، ولا يعني هذا بأي حال من الأحوال أن   الأميركان يأتون إلى المنطقة من أجل إدخال مساعدات إنسانية أو غيره بقدر ما تعمل الإدارة الأميركية اليوم على إطلاق مشروع لما يسمى إعادة صياغة الحل السياسي لوجه الشرق الأوسط الجديد. لا شك بأننا أمام مشهد كبير قد يتم طرحه من قبل الإدارة الأميركية.

بالقدر الذي تحاصر فيه الآن إسرائيل قطاع غزة، وتمنع المساعدات الإنسانية من الدخول إلى غزة وتمارس حرب التجويع أو ما يمكن أن نطلق عليه استعمال القوة الناعمة منا يعني من لم يمت بالسيف مات بغيره، وتقوم بعمليات عسكرية انتقائية وهذا وجه جديد للحرب في قطاع غزة، فإن ما يجري في الضفة الغربية حربًا شرسة ومعقدة وأشد ضراوة تمهيدًا كما يبدو لتنفيذ المشروع الإسرائيلي في ضم الضفة الغربية إلى إسرائيل، وهنا أتحدث عن إجراءات عملية يقوم بها الاحتلال الإسرائيلي أمام سمع وبصر العالم دون أن يحرك ساكنًا. إسرائيل أقامت حزام استيطاني واسع النطاق صادرت فيه مؤخرًا آلاف الدونمات من الأراضي حول القدس، وذلك لقطع التواصل الجغرافي بين شمال وجنوب الضفة الغربية، وأحكمت حزام استيطاني واسع حول القرى والمدن الفلسطينية في الضفة، مما يمنع من أي تمدد طبيعي للمدن الفلسطينية مستقبلاً، وهذا يعني فرض التهجير الطوعي للشباب الفلسطيني عندما يفقدون مستقبلهم في السكن الآمن والحياة الكريمة على أرضهم ووطنهم، كما وقامت بشق طرق التفافية واسعة النطاق للتواصل الجغرافي بين المستوطنات في الضفة الغربية وإسرائيل لتكون جزءًا لا يتجزء من إسرائيل، وأغلقت مناطق C على الفلسطينيين التي تُشكِل %62 من مساحة الضفة الغربية تمهيدًا لضمها، وتعمل على تهجير ما تبقى من المزارعين الفلسطينيين إلى التجمعات الفلسطينية في المدن التي تعرف بمناطق تصنيف A، وقامت أيضًا بوضع بوابات حديدية على المدن والقرى الفلسطينية كافة، تغلقها وتفتحها متى تشاء، كما تخوض حربًا ضروسًا في المخيمات للتخلص من ظاهرة اللاجئين الذين رحلوا عن ديارهم بعد عام النكبة سنة 1948. وأخذت تعمل على تغيير معالم المخيمات بدءًا من شمال الضفة الغربية وتنتقل تدريجيًا إلى جنوب الضفة الغربية. 

إذن نحن أمام مشهد كبير في الضفة الغربية يدور رحاه بالتوازي مع مجريات الأحداث في قطاع غزة، وبالتالي فإن المبعوث الأميركي الذي يقوم بزيارة مكوكية من أجل إبقاء اتفاق الهدنة سائرًا. كل العيون والآذان اليوم متجهة إلى برنامج كامل متكامل قد يتم طرحه في خضم الاتفاق الشامل لحل وضع الفلسطيني، وفي اعتقادي أن هذا المشروع يلبي الطموحات الإسرائيلية أكثر ما يمنح الشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة في دولة فلسطينية على حدود 1967. وهذا السبب في اعتقادي الذي سبب امتعاضًا لدى القيادة الفلسطينية في أن الأمور تسير بعيدًا عن الثوابت الفلسطينية، مما يعني توريط حركة حماس في مشهد سياسي للقضية الفلسطينية هي في غنى عنه. إذ أن ما يطرح من قضايا في المباحثات الدائرة في قطر، لا يمت بصلة على ما يتم الكشف عنه في العلن للرأي العام المحلي والدولي، في إطار صفقة قد تفرض على المنطقة.

أعتقد من الضروري الآن وفي هذه المرحلة الخطيرة من تاريخ القضية الفلسطينية أن تتوحد الجهود الفلسطينية اليوم بمشاركة "م.ت.ف" وعلى رأسها القيادة الفلسطينية وليس غدًا، للمشاركة في تلك المحادثات التي تدور في قطر. المرحلة الحالية يصح أن نسميها "الشرق الأوسط الجديد"، ونحن هنا سواء، في قطاع غزة والضفة الغربية عرضةً لهذا الوجه الذي يرسم إسرائيليًا وأميركيًا. 

أستطيع أن أفهم السبب وراء السابع من أكتوبر، فالممارسات الإسرائيلية كانت خانقة للشعب الفلسطيني، ولا يمكن قبولها بأي حال ولكن لا يمكن أن يستوعب أحد أن تستفرد حركة حماس في مباحثات تجري في مع الإدارة الأميركية قد تفضي إلى واقع جديد في الشرق الأوسط الجديد، الشكل والمضمون فيها هو وفق الرؤيا الإسرائيلية.

أعتقد جازمًا أن حركة حماس وهي تخوض هذه المفاوضات منفردة لن تستطيع أن تتحمل ما ينتج عن تلك المباحثات إذا جاءت النتائج مغايرة لما تريد أو تعلن عنها والتي قد تفضي إلى شكل جديد للديموغرافيا الفلسطينية. وخصوصًا أن ما تبقى من أوراق للمفاوضات هي غير ذات قيمة بالنسبة لإسرائيل إذا ما قررت أن الوجه الجديد للديموغرافيا الفلسطينية هو الأهم بالنسبة لها وهو جزء من أهداف حربها التي شنتها على غزة وهذا ما يفسر رغبة الاحتلال في استمرار المرحلة الأولى وعدم الانتقال لمراحل أخرى من اتفاق الهدنة في غزة، وذاك الذي ستطلق عليه الحل للقضية الفلسطينية، وتبنته الإدارة الأميركية في مشروعها وأعلنت عنه في العالم العربي والإسلامي عمومًا وفلسطين تحديدًا، سيقضي بتصفية القضية الفلسطينية.