تحدثنا في الحلقات السابقة عن الخوف والاحباط لدى "داعش" وتخلي الداعمين، وأبرزنا مكاسب التنظيم والدول الأخرى من "غزوة باريس"، واستكملنا حول النشأة و"القاعدة" والتطرف، ثم عرجنا على دور التهميش في العنف، وعن "القاعدة" المدعومة عالميا و"داعش"، وأميركا ورعاية الإرهاب والطائفية، ثم عرجنا على الواقع الافتراضي ودوره في كسب الأعضاء الجدد، والاغتراب و"الجهاد" والإعلام، وعرضنا "تحاث" المشاهد ومعارك داعش الاعلامية وأصل تشكيل الفكرة، لنعرض في الحلقة الاخيرة تجفيف المستنقعات الارهابية، والاستغلال الاسرائيلي مرفوقة بالخاتمة
المواجهة وتجفيف المستنقع
إن المواجهة لهذه التيارات الاسلاموية المتطرفة قد تكون صعبة، لأنها مستقرة البناء الممتد للإرث الاسلاموي التاريخي تنهل منه على إدعاء انه هو الاسلام ذاته، وهو ما تحفل به كتب التراث والتاريخ العربي والاسلامي والمدارس والجامعات والمنابر، وتتقاطع فيه بقراءات اجترارية انقطاعية ثقيلة دون تمحيص ونقد، وتغيير إلا من القلة من المفكرين الاسلاميين المتنورين، وهم في واجهة المُكَفّرين من قبل هذه الجماعات.
إن المواجهة لهذه التيارات لم تكن لتسير وفق منطق الحوار والاستيعاب والتأهيل والنقد والمحاججة، ولم تكن تسير وفق استراتيجية تجفيف المنابع أو (المستنقع) الآسن بإحداث تغييرات ثقافية واقتصادية وتعليمية وإعلامية وفكرية شاملة، لماذا؟ هل لأن الخطر كان غير واضح أو لانه بعيد عني أَم ماذا؟ أم ذلك وغيره الذي منه كما ذكرنا تقاطع المصالح فكانت عديد الدول في الإقليم وخارجة تتعامل بمنطق الاستغلال للظاهرة التي تحولت لجرثومة، بل والدعم من كثير من الدول والجماعات تلك التي تدعى أنها تنهل مع المتطرفين من منبع الإسلام الصافي وما هي بصادقة أبدا، وفي الحد الأدنى كان هناك تساهل الى حد الاسترخاء الأمني حتى وقعت الواقعة وشب التنظيم عن الطوق واصبح (خلافة) ستطيح بالعروش.
إن دوائر المواجهة بمنطق تجفيف المستنقعات من جهة والتغيير في أساليب التعليم ومواده ومناهجه العقلية واجبة الاتباع، وفي الوضع الاقتصادي وطرق الإدارة لفكر الآخرين، تعني أن المواجهة الأمنية والعسكرية على أهميتها ليست كافية لوحدها وتعني أن الدائرة الوطنية يجب أن تتكامل مع الاقليمية والعالمية خاصة بعد سلسلة (الغزوات) التي طالت السعودية والكويت واليمن وليبيا ومصر وباريس وتونس ودول افريقية.
الاسرائيلي و"غزوة باريس"
بلا شك أن الاسرائيلي يحاول دوما ان يستغل أي حدث لمصلحته ويوظفه لسياساته وروايته المضللة، فلا بأس أن يتم تذكير العالم بالاسطوانة المكررة خاصة للصهاينة ولليمين على شاكلة (المحرقة) و(العداء للسامية)، وإن دولة الكيان (دولة يهودية ديمقراطية) تحارب الإرهاب، ولا بأس من المقارنات بين ما يدعونه الإرهاب الفلسطيني وما حصل في أوروبا ليعيد "نتنياهو" –ورفاقه- ويكرر تقديم نفسه كبطل ومحارب ضد الارهاب وضد الشر الممثل في الفلسطيني من جهة، وفي الدولة الاقليمية الراعية له وهي ايران.
إن سياسة نتنياهو المبنية على الحفر في التاريخ واستخدام الأساطير والأكاذيب من جهة، وبالسياسات الميدانية العدوانية والإرهابية وتلك المرتبطة بتحميل الآخرين المسؤولية بالتهم الجاهزة لديه من ما يسميه (العداء للسامية) لا بد أن تقفز للظهور أمام العيان عند كل مفصل فيما يقوله ويفعله او يقولونه عنه، فها هو (سيفر بلو تسكر) في (يديعوت)، و(حاييم شاين ورؤوبين باكو) في صحيفة (اسرائيل اليوم) ينظّرون للرواية الاسرائيلية اليمينية المرتبطة بفكر "نتنياهو" التوراتي المتطرف، وسياساته ف(شاين) يعتبر أنه (لا صلة بين تنامي الارهاب الإسلامي والصراع العربي الاسرائيلي) بمعنى أن احتلال فلسطين ورفض الاسرائيلي قيام دولة فلسطينية ما كان هو عامل التويتر أو سبب الصراع، أو محرض كفاح أو نضال عربي أو اسلامي ضد المحتلين أبدا، وبالتالي يريد أن يجعل من القضية الفلسطينية خلافا داخليا محدودا يتم إدارته بالعصا والجزرة من قبل الحكومة الاسرائيلية! وهو في اطار تنظيره السخيف هذا يؤكد على أن أرض فلسطين العربية التي يسميها (اسرائيل) لا يجب التنازل عنها، حيث يقول بكل قبح وبجاحة (لا يجب التنازل عن متر واحد في "يهودا والسامرة") والمصطلح المكذوب الأخير هو مصطلح توراتي فاسد تاريخيا للضفة الغربية.
أما زميله (باكو) في الصحيفة المقربة من نتنياهو وهي (اسرائيل اليوم) فيقرر أن (معاناة العالم من الإرهاب العالمي نتيجة دعم الفلسطينيين له)! ما يتفق فيه معه (حاييم شاين) في ذات الصحيفة في 21/11/2015 حين يدعي أن الخليل (تحولت الى حصن للأصولية الدينية التي يلف نهجها القاتل العالم كله)! في محاولة فاشلة للمقاربة بين الكفاح الفلسطيني وإرهاب "داعش"، متناسيا إرهاب مستوطنيه وجنوده اليومي في الخليل وكامل فلسطين.
وإدعى العميد احتياط "نيتسان نورئيل" أن الفلسطينيين في داخل فلسطين 1948 (تهب رياح "داعش" في صدورهم)؟ مقدرا عددهم بالآلاف، في إشارة للربط واضحة الدلالة والتوقيت، ونظّر (بلو تسكر) ضد ما يسميه (الجناح الفاشي في الاسلام) وكأن فاشية حكومته لا توزع العطاءات والنصائح الإرهابية على كل العالم، ليتقاطع مثل هذا التحريض مع التشدد اليميني الذي يعد (دوف ليشور) من أبرز رجالاته الذي اعتبر "غزوة باريس" عقابا للأوروبيين على (المحرقة).
وهذا الحاخام المتطرف المقيم في مستوطنة (كريات اربع) بالخليل أي "دوف ليئور" يُبرز مع مجموعة كبيرة من الحاخامات الشكل الجديد للهيمنة والعدوانية الاسرائيلية، وهو تحديدا ممن أفتوا بقتل "رابين" وصادق على فتوى الحاخام (اسحاق شابيرا) سيء الصيت بتحليل قتل أطفال العرب، وما زال يقوم بعمله تحت رعاية حكومة "نتنياهو" في مدرسة تأهيل الضباط.
إن استغلال الاسرائيلي للإرهاب الذي أودى بحياة 129 شخصا في باريس يمثل قمة الاستخفاف لعقول الناس، وهو الاستهتار الذي قوبل بالاستنكار الاوروبي وهذا متوقع ولكنه أيضا لقي السخرية من اليسار الاسرائيلي، فعلى سبيل المثال رفضت أسرة صحيفة "هآرتس" الربط بين ما يحصل في فلسطين وبين الإرهاب، إذ اعتبرت أن حوادث الطعن والدهس لها أسباب ثلاثة هي: الاحباط ثم عدم وجود أفق سياسي وثالثا انعدام الأفق الاقتصادي الذي أدى لصعوبة الحياة أمام الفلسطيني، بل أن (سيما كدمون) في صحيفة "يديعوت" قد أوضح/أوضحت بجلاء بالرد على محاولات الربط بين الفلسطيني والإرهاب العالمي بالقول: أن (الفلسطينيين ليسوا داعش)، وكرر نفس الأمر كل من الكاتب (عاموس هرئيل) حيث أوجز كلامه بالقول أنه (لا مقارنة – كما يقول اليمين – بين هنا والإرهاب الاسلامي في الغرب) لأن [الارهاب] هنا يقوم به (شعب له أهداف سياسية واضحة وقومية).
(حتى الآن لم تكن لدى "اسرائيل" مشكلة مع وجود "داعش" في الجولان، ومن بين كل النيران التي تسللت من سوريا باتجاه "اسرائيل" أثناء الحرب الأهلية الدامية لم تطلق أي رصاصة من قبل مقاتلي "الخلافة الاسلامية") هذا هو الواقع كما نرى مما كتب "أليكس فيشمان" تحت عنوان الأخطبوط الأسود في "يديعوت أحرونوت" حيث التغاضي الاسرائيلي بل الدعم لوجود هذا التنظيم المتطرف، فمن هو الإرهابي ومن هو المتطرف حقا؟
لقد كسبت (اسرائيل) الكثير من فوضى الإقليم ومن إرهاب داعش تحت نظرها ودعمها المباشر أو غير المباشر ليس أقله زيادة المساعدات العسكرية الأميركية بدعوى أنها السد المنيع أمام الارهاب، وكسبت جزئيا في محاولة الايهام بصلة الفلسطينيين والمسلمين بالإرهاب عبر حظر الشق الشمالي للحركة الاسلامية في فلسطين الداخل، وعبر التلويح بخطوات أحداية في الضفة والتفلت شبه النهائي من الالتزامات بالقضية الفلسطينية-الاسرائيلية، بل وصل الغرور بنتنياهو الى حد الطلب من (كيري) الاعتراف بالمستوطنات وتبجح بالادعاء أن حدود كيانه هو نهر الأردن والأغوار، عدا عن التخويف الذي بثته حكومته واعلامه في صفوف اليهود الفرنسيين ليهاجروا الى فلسطين، كما ستكسب (اسرائيل) من توجيه السياحة بعيدا عن مصر وسوريا وتركيا وحتى تونس وباريس الى منتجعاتها في يافا وتل أبيب.
إن الإستغلال والكسب والتوظيف لمآسي العالم وكأنها نابعة من الفلسطيني بشكل أو بآخر أو من (الاسلام) الحنيف هو ديدن سياسة حكام الدولة الاسرائيلية اليوم، وهم أنفسهم الذين يتعمدون دوما تذكير العالم (بواجبه) أمام (المحرقة) الفزّاعة الاسرائيلية دوما، دون اعتبار لتحول الضحايا الى جناة ما هو حال الاحتلال الصهيوني لبلادنا اليوم الذي يرتكب محرقة أشد، وعليه فإن من لا ينصاع للرواية الرسمية الاسرائيلية، رواية اليمين الحاكم وبعض اليسار المتهالك المتواطيء يقع تحت مقصلة التهمة المعاقب عليها قانونيا أي ما يسمونه مكافحة (معاداة السامية) التي أصبحت تعنى (مناصرة الإرهاب) أي سياسيات حكومة الاسرائيلي بوضوح.
خاتمة
نلخص بحثنا هذا حول (غزوة باريس المباركة) والتطرف للقول أن مشكلة الارهاب والعنف والتطرف تترابط معا ولها جذور تاريخية في مختلف الحضارات والأفكار والثقافات في العالم كله، ومنها في تاريخنا الذي اعتمد كثيرون منا فيه على فكر (النقل) لا (العقل) الناقد والممحّص الذي يستخدم البيّنة والدليل والتطور الفكري البحثي والعلمي، حيث وقف التطور عند كثير من الاسلامويين خاصة ذوي العقول المغلقة عند حدود مرحلة تاريخية بأدواتها البحثية، وفي ذات الوقت الذي تطور فيه العالم بدأ الاسلامويون بالرجوع للخلف إلا من قلة اعتمدت النور والحوار والعقل وإن كان تطورها يسير بشكل بطئ.
إن (الارهاب) المقبل من عمق (التطرف) الفكري والسياسي والثقافي كائن أو وحش يتنفس ويأكل ويشرب فهو يتغذى على التاريخ المليء بالأساطير والأوهام، وعلى ثقافة أو فكر ميت وهو إرهاب أو تطرف يتشرب من الممارسات اليومية والأقاويل والدعوات والخطابات، ومن التحليل المستند لرؤية ماضوية متوقفة منقطعة يحكم فيها على الحاضر، أما الأكسجين للتطرف وأداة الارهاب فهو العنف ضد الآخر (دار الاسلام ودار الكفر) ما يجعل من مخرّص مثل (ميت رومني) مرشح الرئاسة الأميركية السابق يقول أن (العدو يعيش في الاسلام) وفي الحقيقة أنه يعيش فيه هو، وفي كل كائن وليس في الدين أبدا.
ومن هنا تأتي "غزوة باريس المباركة" في الفكر الإرهابي الداعشي لتعلن انتصارا مطلوبا في (دار الحرب) أو الكفر، وعلى المؤامرة الصليبية الكونية على الإسلام كما ينظّرون، ولتعلن أن "العدو والبعيد" أصبح قريبا، ولتضع دول الغرب في مصيدة وحالة مواجهة صعبة وقاسية،ولتقلص مساحة المنطقة الرمادية لدى المسلمين فينحازوا الى معسكر الاسلام، و"الخلافة على منهاج النبوة" التي يظنون أنهم يمثلونها!
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها