قلنا سابقا: إن الأولويات الإسرائيلية في هذه الفترة لا تضع مسألة التسوية في أجندتها الحالية أو في المرحلة المتوسطة منها. فالكثير من المسائل التي تهمها الآن ترى فيها الأسباب الأكثر وجاهة من ملف تريد القيادة الإسرائيلية بالأصل أن تؤجله، نظرا لعدم استعدادها البحث في حيثياته وموجباته.
إسرائيل الآن تصر على وضع الملف النووي الإيراني كمانشيت كبير أمام الولايات المتحدة وكل الزاعمين الإهتمام بإنتاج التسوية العتيدة، ليس بسبب ما تزعم خطورته فقط، بل لتبرير عدم استعدادها الخوض بمفاوضات تعرف سلفا أن لنجاحها ثمناً عليها أن تدفعه من جغرافيا أهدافها ومطامعها التوسعية وعقيدتها السياسية والأيديولوجية.
ذلك يعني أن الزيارة التي قام بها الرئيس الأميركي للمنطقة وأعقبتها زيارة ثانية لوزير خارجيته "جون كيري" والتي التقى خلالها المعنيين بملف الصراع، ركزت على شد أوصال المعسكر الأكثر ارتباطا بالولايات المتحدة الأميركية، من خلال تفكيك أسباب إشكالياته، خاصة إعادة وصل الحلقة التي انقطعت بين إسرائيل وتركيا على أثر قضية سفينة مرمرة التركية التي سقط فيها تسعة أتراك في العام 2009.
مبادرة رئيس الوزراء الإسرائيلي بالإعتذار من الحكومة التركية والإستعداد للتعويض المادي لعائلات الضحايا، الذين سقطوا خلال هجوم الجيش الإسرائيلي على جمهور المتضامنين مع قطاع غزة المحاصر، لم تأتِ بسبب يقظة حاسة التواضع أو وخزة الضمير لدى نتنياهو، بل بسبب استشعار المخاطر الآتية من سوريا التي تحدُّ الجارين اللدودين- تركيا وإسرائيل.
فالأولى- تركيا، يهمها الحفاظ على النمو الإقتصادي النوعي الذي وصل حدود 8 % سنويا، ويهمها أيضا كف اليد الإسرائيلية عن التلاعب بالملف الأكثر خطورة في المنطقة- أي الكردي – والذي يكلف تركيا الكثير من إمكاناتها الإقتصادية وأمنها وسمعتها الدولية، خاصة قربها من أن تكون العضو القوي في الإتحاد الأوروبي.
والثانية- إسرائيل، يهمها التعاون الإقليمي مع تركيا، لمحاصرة أية مخاطر قد تواجهها مستقبلا جراء انفلات الأمور في سوريا وعجز الحكومة المركزية عن السيطرة التي منحت إسرائيل الهدوء الذي استمر أكثر من اربعين عاما، خاصة وأن الجبهة السورية طويلة وتحتاج الكثير من الجهود والامكانات لضبطها ومنع محاولات استغلالها كنافذة حيوية بقصد فتح جبهة جديدة ضد الاحتلال.
أساف جبور يقول في جريدة معاريف: "العلاقات مع تركيا هي مبنى محطم، ينبغي بناءه لبنة لبنة إلى أن تقف حيطان مستقرة كي يتم إدخال وإشراك تركيا في التسويات السياسية". لكن برأينا ذلك لا يمنع من الشروع بما سبق، نظراً لوجود عقيدة براغماتية متداولة في عالمنا، تجيد تبديل المواقع والتحالفات، وبالتالي تنطلق من القواسم المشتركة التي تبرر وتنظم تبدل أشكال العلاقات ومساراتها بين الدول.
كلام جبور دقيق لجهة إشراك تركيا كراع لمفاوضات مفترضة بين إسرائيل والفلسطينيين، في حال جهوزية المعنيين بها، وهو الأمر المستبعد، فيما يتمرن الطرفان على ما يعنيهما مباشرة ضمن الحلف المقدس مع الأميركيين ومنظومة سياسة كل طرف ومصالحه الإستراتيجية.
ورغم عدم شروع العلاقات الثنائية بالوضوح الذي يؤكد بدء استقرار العلاقة بين البلدين، إلا أن لتأجيل زيارة رئيس الوزراء التركي إلى غزة دلالة هامة على بدء المسار بالاتجاه الذي رسمه الأميركيون، ومراعاة تركيا للرغبة الدولية، وبخاصة الأميركية والإسرائيلية بعدم شرعنة حماس وإعطائها جرعة معنويات إضافية خالية من المفعول الذي تشترط الرباعية الدولية استباقه بموافقتها على شروطها.
لكن السبب الأهم لتأجيل الزيارة العتيدة يعود لحالة التخبط التي تعاني منها الحركة الأخوانية، جراء تأثير ما يسمى "الربيع العربي" عليها كبنية سياسية وايديولوجية واحدة.
زيارة امير دولة قطر إلى القطاع، والتي قدم خلالها الكثير من العروض السخية لإعادة بناء ما هدمه العدوان الإسرائيلي، إنما من خلال العلاقة الثنائية المباشرة ما بين المسؤولين القطريين والمقاولين الذين ينفذون مشاريع إعادة البناء. ورغم اللقاء الذي اجراه الأمير مع هنية والعديد من قادة حماس في غزة، وسيل الأماني والوعود التي قطعها للقطاع، إلا أن الزيارة بدت باهتة وخالية من الحفاوة والمديح الاستثنائي الذي كان لقطر واميرها عادة، حيث تكشفت الهوة العميقة في الهرم القيادي الحمساوي ومواقف العديد من اقطابها التي طاولت الموقف الرسمي لدولة قطر، والتي أظهرت ان من اسباب زيارة الأمير تقديم دعم مباشر لها كرشوة لكي تحسم موقفها وموقعها في معادلة التحالفات الجارية في المنطقة، وبالتالي تضاءل حجم الزيارة الى مجرد دعم للسيد خالد مشعل والفريق الحمساوي الداعم لخطواته.
فالاشارة الهامة التي أعقبت الزيارة ووصلت للقيادة المصرية دخول طرف ثان- قطر- على خط تنسيق دخول خالد مشعل إلى القطاع مع الاسرائيليين دون مراجعتها.
والأهم ان العلاقات المتوترة داخل حماس جعلت من الموقع على اتفاقي المصالحة في مكة والقاهرة السيد مشعل أقرب إلى السائح منه الى القائد العائد إلى عرينه. خاصة وان الذي يحكم حماس هو ذراعها العسكري- كتائب القسام وليس سواه. ونظراً إلى حسم السيد مشعل موقفه وانحيازه للمنظومة التي ترعى التغيير في سوريا والمنطقة، فإن الجناح الايراني المتمثل بعدد من الوجوه القيادية الوازنة في حماس والمرتبط بالقساميين هو الذي يحكم غزة ويقرر مصير العلاقات الداخلية وتوازناتها ومساراتها السياسية.
تشير الوقائع إلى أن التأجيل المتكرر لاستكمال انتخاب المكتب السياسي ورئاسته داخل حماس تعود إلى الصراع على من يمسك عنق قرارها ويقودها في المستقبل، حيث بدا السيد مشعل الحلقة الأضعف في موازينها الداخلية، وما تصريحه حول عدم ترشحه للرئاسة، وقبوله البقاء فردا عاملا فيها، سوى دليل على ضعف مكانته، وبالتالي على تسرعه في الانتقال من سوريا إلى قطر، وتحمله المسؤولية عن إطلاق جملة من المواقف التي انتجت ردود افعال بالاتجاه المعاكس لمواقفه، وبالتالي جعلت من حماس رهينة انفعالين متناقضين وقعا على السيد مشعل كاستغلال من المعارضين له، حدثان خطيران حصلا، الأول استهدف احمد الجعبري، المعارض الأساسي لرئيس المكتب السياسي والحاكم الفعلي للقطاع، والثاني حصد السيد كمال غناجة، ضابط ارتباط حماس مع حزب الله وإيران.
يعترف ألوف بن في هآرتس بأن اللقاءات بين الملك الأردني ورئيس الوزراء الإسرائيلي تتم سرا، وان الملك الأردني يصف نتنياهو بأنه يسهم في الإستقرار.
فيما الوقائع التي شهدناها منذ وصول الأخوان إلى الحكم في مصر تشير إلى تفاهم واضح مع الأميركيين بشأن الإتفاقات مع الإسرائيليين، لكن هناك حالة غير مطمئنة على الحدود مع القطاع تتداولها اجهزة الأمن المصرية، تسهم في زعزعة الإستقرار في سيناء، وبسبب وجود الأنفاق التي تعمل بإشراف كتائب القسام نفذت العملية الارهابية ضد الجيش المصري السنة الماضية. يومها أشارت المصادر الأمنية المصرية إلى مسؤولية مباشرة لجماعة سلفية مصرية- غزية عن تنفيذها، وان أصابع الإتهام وجهت إلى جهات في حماس- القسام من خلال مجموعة من المعطيات التي بحوزتها، واحدة منها مقتل خمسة من عناصر المجموعة المنفذة في أحد أنفاق غزة بطريقة غامضة. يقال إن العملية خدمت الرئيس محمد مرسي جدا، كونها مهدت له الطريق للإطاحة بالقيادة العسكرية، وبالتالي القيام بتنصيب الشخصيات التي تناسب اسلوب قيادته.
المفارقة التي تتقاطع بين اسلوبي حماس واخوان مصر، تكمن في سيطرة التنظيم – الأمني- العسكري. في غزة يبدو السيد هنية مجرد أداة لا قيمة لها امام كتائب القسام. والسيد مرسي لا صوت له امام صوت المرشد الذي يحدد مسار البلاد السياسي ومصير علاقاتها واولوياتها.
من هنا لا بد من العودة إلى السؤال الأساس عن المصلحة الوطنية الفلسطينية ومدى خدمة ما سلف لقضية الشعب الفلسطيني؟
 الآخرون يخططون ويمشون في الطريق التي يعتبرونها تخدم بلدانهم واوطانهم. ما الذي تفعله حماس في سبيل القضية الفلسطينية؟
المصالحة في البراد، وكذلك المقاومة، وللأسف ما يجري من احداث وما يعلن من مواقف، لا يساوي اكثر من تعبير عن مصالح افراد وفئات متناحرة ومتناقضة. حتى ان مسألة المقاومة، لا تعدو أكثر من تعبير عن تضارب مصالح بوجه الجناح السياسي الذي اصبح الحلقة الأضعف في ميزان الواقع .
المعادلة الآن رياضية بامتياز: لا تسوية على جبهة الصراع مع العدو، ولا مصالحة بين الأخوة في المصير والهوية الواحدة.