لعل ما يثير الدهشة أحياناً أن تفاعلات "الربيع العربي" لم تصل الى فلسطين الا بصورة مجادلات سياسية وفكرية كانت تعكس أهواء الناس أكثر مما تعكس تفكيراً جدياً في الاحتمالات الممكنة التي يمكن أن تفتحها التطورات العربية. ولم تتضح، حتى اليوم، الفضاءات الاستراتيجية أمام الشعب الفلسطيني، لأن الواقع الراهن سديمي ومتسربل بالغموض وعدم اليقين، والخيارات العملية المتاحة للقوى السياسية في فلسطين محدودة الفاعلية والتأثير، ذلك لأن السياسات الفلسطينية المختلفة رُسمت عناصرها على أساس الفشل؛ فقد فشل اتفاق أوسلو في تحقيق دولة ذات سيادة كاملة، وانعكس ذلك على السلطة الفلسطينية التي أرادت اسرائيل تحويلها الى إدارة ذاتية محدودة الصلاحية. وبعد عشرين سنة على اتفاق أوسلو فشل الفلسطينيون في تطوير أدوات نضالية جديدة تتيح لهم انتزاع دولة مستقلة جراء التحطيم والالغاء. وفشل الفلسطينيون كذلك في تطوير السلطة الفلسطينية وهياكلها بحيث تفرض نفسها على العالم دولة بالقوة بانتظار ان تصبح دولة بالفعل. لهذا صارت السياسة العامة الفلسطينية، ولاسيما سياسات الفصائل التاريخية، مجرد سياسة انتظارية تترقب ما سينقشع عنه الوضع العربي. وهذا الموقف ناجم عن قرار اسرائيل ابقاء الوضع الراهن على ما هو عليه ما دام هذا الوضع لا يعيق الاستيطان ومصادرة الارض وطرد الناس من ديارهم. ومن الصعب جداً على الفلسطينيين اليوم اختيار ما هو معروض عليهم، ولا سيما أن "الثورات العربية" لم تستقر على قوام محدد بعدُ، وخصوصاً أن المعروض على الفلسطينيين ليس الاختيار بين حل الدولتين او حل الدولة الواحدة مثلاً، بل فرض "الدولة الموقتة" كعقد إذعان. والدولة الموقتة هي حل انتقالي طويل الأمد لا يتضمن الاعتراف الفلسطيني بإسرائيل، بل يتضمن انسحاب اسرائيل من بعض مناطق الضفة الغربية، وتمكين السلطة الفلسطينية من ممارسة صلاحياتها في جميع المناطق التي تنسحب اسرائيل منها، واطلاق الاسرى، على أن تسري هدنة طويلة بين الطرفين، ويتم تأجيل قضايا الحل النهائي وترحيلها الى أمد غير معلوم (القدس، اللاجئون، الحدود، السيادة، الأمن، المياه، الاستيطان،... الـخ).
إن "الدولة الموقتة " هي حل اسرائيلي تماماً، وهي نابعة من تفكير المؤسسة العسكرية الاسرائيلية نفسها. وقد شرح ايهود باراك، وزير الدفاع الاسرائيلي السابق، هذه المسألة أمام مؤتمر "إيباك" في واشنطن في شباط 2013  بالقول: " إن التوصل الى سلام شامل مع الفلسطينيين أمر مستحيل ... لذلك نقترح اتفاقاً موقتاً. وإذا لم ينجح هذا الاقتراح، فعلى اسرائيل اتخاذ خطوات من جانب واحد لمنع قيام دولة ثنائية القومية"، أي أن عليها رسم الحدود منفردة بطريقة تحقق لها ضم الكتل الاستيطانية الكبرى في الضفة الغربية ( راجع: جريدة "الشرق الأوسط"، 5/3/2013).
ليست فكرة الدولة الواحدة الثنائية القومية أمراً ممكناً البتة، لكنها، في التفكير الفلسطيني، دعوة الى التعبير عن قضية فلسطين وعن الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي بلغة حديثة، أي لغة المواطنة والمساواة والحرية والديمقراطية وعدم التمييز... الـخ، وهنا بالذات تكمن جاذبيتها. وتبنّي الفلسطينيين لفكرة الدولة الواحدة، ديمقراطية علمانية أكانت أم ثنائية القومية، يمثل اعترافاً فلسطينياً واضحاً بالجانب القومي للوجود اليهودي في فلسطين. وهذا انزلاق خطير؛ فما دام الفلسطينيون يعترفون إذاً بهذا الوجود كوجود قومي بموجب منطوق الدولة الثنائية القومية، فإن من حق اليهود في اسرائيل، في هذه الحال، أن يختاروا الانفصال عن الفلسطينيين، وأن يصرّوا على دولة اسرائيلية يهودية تطبيقاً لشعار "حق تقرير المصير". كان أول من عرض فكرة "الدولة الواحدة" هو خالد الحسن (أبو السعيد) بحيث تتحول  فلسطين التاريخية كلها الى دولة واحدة للفلسطينيين واليهود معاً على قاعدة المواطنة والمساواة. وهذه الفكرة تحل فوراً مشكلة المستوطنات واللاجئين وحق العودة. فالمستوطنات تبقى في مكانها لأن من حق المواطن اليهودي في الدولة الواحدة أن يسكن أينما يشاء. ومادام حق العودة متاحاً لليهود، فسيكون هذا الحق متاحاً للفلسطينيين أيضاً؛ وهكذا يمكن حل مشكلة اللاجئين. أما القدس فهي عاصمة الدولة الواحدة. أما الدولة الثنائية القومية فكان أول من طوّرها عزمي بشارة الذي عرض على الاسرائيليين الدولة الواحدة لجميع مواطنيها على قاعدة المواطنة المتساوية.
أما في حال رفض المجتمع اليهودي هذا العرض ( وقد رفضه فوراً)، فيجب، حينذاك، النضال في سبيل دولة واحدة ثنائية القومية بحيث تعترف الدولة الاسرائيلية بالفلسطينيين كمجموعة قومية لها الحق في تطير هويتها ولغتها وثقافتها كيفما تريد، وأن تكون لها حقوق قومية وتمثيل سياسي بحسب وزنها، وأن تكون لها علاقاتها الخارجية الخاصة ولاسيما مع بقية الشعب الفلسطيني. غير أن فكرة الدولة الثنائية القومية لدى عزمي بشارة كانت خاصة بالأقلية العربية في داخل "دولة اسرائيل"، بينما كانت فكرة "الدولة الواحدة" لدى خالد الحسن تشمل فلسطين التاريخية كلها.
إن فكرة الدولة الواحدة ثنائية القومية تفترض أن اسرائيل ستُقدم على ضم الأراضي الفلسطينية بسكانها، وحل السطلة الفلسطينية. إن هذا الوضع يعني قيام دولة عنصرية على غرار جنوب افريقيا، حيث المهاجرون يحكمون سكان البلاد الأصليين. حينذاك سيكون على الفلسطينيين النضال في سبيل اكتساب حقوق متساوية مع اليهود. وبهذا المعنى فإن حل الدولة الواحدة أكثر عدالة نسبياً من حل الدولتين، لكنه أكثر طوباوية. فما دام ميزان القوى الراهن لا يتيح تحقيق حل الدولتين، فكيف سيتيح، والحال هذه، حل الدولة الواحدة؟
إن حل الدولتين هو الخيار الواقعي والممكن حتى لو لم يتحقق اليوم. ربما سيتحقق في المستقبل. ولِمَ لا يتحقق؟ فها هو جنوب السودان قد صار دولة مستقلة. ويمكن، باختصار شديد عرض الخيارات المتاحة، ولو نظرياً، للشعب الفلسطيني وهي التالية:
1.  حل الدولتين.
2. حل الدولة الواحدة.
3. الدولة الموقتة.
4. الخيار الأردني ( أي الوطن البديل)، واستطراداً الخيار المصري(أي عودة الادارة المصرية بصورة أو بأخرى الى قطاع غزة.
5. بقاء الوضع على ما هو عليه.
إن حل الدولة الواحدة مستحيل في الأحوال المضطربة هذه. والدولة الموقتة من المحال ان يقبلها الفلسطينيون. والخيار الأردني، بما في ذلك الكونفدرالية، مرفوض فلسطينياً وأردنياً. أما حل الدولتين فقد قضت اسرائيل على مضمونه بالاستيطان الذي ازداد خلال سنة 2012 وحدها 250%. ولم تدعم الولايات المتحدة الأمريكية جدياً هذا الحل، بل أهملت السعي الى حل راسخ ومتين بين الفلسطينيين واسرائيل نزولاً عند الرغبة الاسرائيلية. أما "الحل" الذي تسير اليه الاوضاع رغماً عن ارادة الفلسطينيين فهو الحل العنصري، أي أن أقلية مهاجرة تحكم الفلسطينيين المتناثرين في معازلهم، علماً أن هذه الأقلية اليهودية ما عادت أقلية لأنها طردت سكان البلاد الأصليين الى خارج البلاد، وتحولت أكثرية تفرض رؤيتها على الأقلية. والرؤية الاسرائيلية يمكن تفصيلها كالتالي:
1. اسرائيل دولة يهودية، وعلى الفلسطينيين والعرب الاعتراف بها كدولة يهودية.
2. حل مشكلة اللاجئين خارج حدود اسرائيل.
3. الدولة الفلسطينية المقترحة يجب ان تكون منزوعة السلاح ولا سيادة لها على حدودها وأجوائها.
4. القدس موحدة وعاصمة أبدية لإسرائيل.
5. المستوطنات الأساسية جزء من دولة اسرائيل.
6. الحوض المقدس ( الحرم القدسي وجواره ) تديره لجنة خماسية مؤلفة من اسرائيل والفلسطينيين والسعودية والاردن والولايات المتحدة الأمريكية، يمكن إضافة الفاتيكان عند الضرورة.
هذه هي الرؤية الاسرائيلية للحل الذي سيُبنى عليه "السلام المقبل" بحسب ما تسعى اسرائيل اليه. والواضح ان هناك بوناً شاسعاً جداً بين الرؤية الاسرائيلية والرؤية الفلسطينية، الأمر الذي يجعل المفاوضات بين الجانبين لا تصل الى أي نتيجة. فما يعرضه الاسرائيليون لا يمكن ان يقبل به الفلسطينيون. وما يريده الفلسطينيون لا يمكن ان يمنحه الاسرائيليون لهم بالتفاوض الا اذا تغير ميزان القوى لمصلحة الفلسطينيين.
هل يمكن ان تتغير موازين القوى حقاً؟ وأين تكمن مشكلة الفلسطينيين بعد عشرين سنة على اتفاق اوسلو، وبعد ثمانية عشر عاماً من التفاوض المباشر والمر وعديم الجدوى؟ ربما كانت المشكلة ان منظمة التحرير بعد أوسلو جعلت التفاوض المباشر طريقاً شبه وحيد  في سعيها الى الدولة المستقلة، بينما طرحت الفصائل المناوئة لاتفاق اوسلو ( حركة حماس وحركة الجهاد الاسلامي وآخرون) العنف أسلوباً وحيداً للوصول الى الاستقلال الوطني. وبرهنت الوقائع عن بطلان هذا التقسيم؛ فالتفاوض والمقاومة عملية واحدة(Fight Fight, Talk Talk)، لكنها تحتاج الى مرحعية واحدة لتدير التفاوض والمقاومة معاً على الطريقة الفيتنامية. لكن المرجعية الفلسطينية التي كانت موحدة تحت راية ياسر عرفات انشطرت الى اثنتين منذ صعود حركة حماس في أواخر ثمانينيات القرن العشرين، وصار من المحال استثمار هذه المعادلة بصورة ناجعة، الأمر الذي جعل التضحيات الجبارة للشعب الفلسطيني، ولا سيما في الانتفاضة الثانية سنة 2000، تتطاير هباء.
الصورة الراهنة في فلسطين تشير الى ان الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي مفتوح، والفلسطينيون ليسوا في طريقهم الى حلول سياسية البتة، وليسوا قادرين اليوم على تحويل الاحتلال الاسرئيلي للأرض الفلسطينية الى مشروع خاسر؛ والخسارة لا تتحقق فعلياً الا باستخدام القوة. والقوة غير العنف، وهي تعني استخدام جميع الأوراق المتاحة، السياسية والدبلوماسية والقانونية، كالتظاهر والمقاطعة والعصيان المدني وتنظيم اعتصامات حركة المناصرة الدولية، واستخدام العنف المباشر حين يكون ذلك مجدياً. وفي هذه السياق لا بد من اعادة الاعتبار لبعض الافكار البسيطة التي أهيل عليها ركام من الغبار الذي زَحَم الفضاء السياسي الفلسطيني برمته، وجعلها مهملة في زوايا النسيان. ومن هذه الافكار البسيطة والبدهية ان فلسطين قضية تحرر وطني في الاساس وليست خلافاً على الأرض من هنا او هناك، وهذه القضية لم تحل حتى الآن.
لذلك لا بد من تطوير برنامج سياسي للتحرر الوطني لا للتفاوض المباشر فحسب. ولا بد من ميثاق وطني جديد لمنظمة تحرير فلسطينية جديدة يتضمن، في جملة ما يتضمنه، خيار المقاومة المسلحة.