بين الموافقة والرفض يوجد أكثر من مجرد حياد. موقف اللا موقف فن الجماهير الشعبية في التعبير عن سلبية الانجرار خلف اصطفافات لا تخدم المصلحة العامة،  يتم خلطها بمواقف نأي الذات عن تحمل المسؤولية في الدفاع عن الرأي من أجل منافع شخصية ضيقة في أتيميا تعيشها المنطقة العربية: أي إنخفاض مكانة الدولة نتيجة التخلف السياسي والاقتصادي والاجتماعي مما يخفض من مستوى التعامل الدولي معها بسبب عدم أهليتها بتمثيل مواطينيها.

نحن أمة تطالب بالحرية والمساواة والعدالة في صراعنا المستمر ضد الصهيونية والامبريالية، كيف لنا أن يكون غالبية أصواتها مهملة نتيجة أننا قرارنا أننا لن تعبّر عن رأينا في تحدي لأنفسنا المنقسمة على ذاتها؟ إنه اغتراب السياسي ناتج عن مجموع المشاعر الشعبية السلبية التي ترفض الأداء السياسي للحكومة والمعارضة، وهي عادة ترفض المشاركة في الاقتراع الانتخابي أو تتحايل عليه، بسبب استخدام الأحزاب السياسية منهج التجنيد الشعبي لقراراتها السياسية بديلا عن التعبئة الفكرية لأسلوب عمل الحزب السياسي ونهجه في إدارة الدولة، مع فتح الباب أمام الجماهير لإثراء الفكر الحزبي نظريا، وتعديله ليناسب المستجدات دون التحقيب المتزمت لآراء جيل المؤسسين الأوائل للحزب، كما أن المشاركة الشعبية للفعاليات الحزبية في النقابات ومؤسسات المجتمع المدني يفتح الباب أمام التواصل بين القيادات الحزبية وجماهيرها.

أما ظاهرة المستقلين سياسيا الآخذة بالتوسع على حساب نشوء أحزاب جديدة أو ظهور قيادات جديدة في الأحزاب القائمة بحاجة لوقفة تعريفية بأنواع المستقلين سياسيا:  فالمستقل هو من يمتلك فكر سياسي أحادي لا يسعى لنشره وإنما يسعى لتوسيع المجال الديموقراطي ليصبح تعددية شعبية هدفها الأساسي تقليل قوة المد للأحزاب الكبرى ثم تقطيع الأحزاب لتجمهرات صغيرة تنتهي بتشكّل الشعبية السياسية بمفهومها المجرد، ولابد التفريق بين المستقل والملهم السياسي، فالملهم السياسي هو صاحب الفكر المنطوي على نفسه فهو يقدّس رأيه، ويطالب المجتمع بأهمية الاقناع أن رأيه هو الصواب، سعيًا لبناء أسطورة الزعامة المتفردة الملهمة من السماء، فهو متعالي على كل من في الأرض، وهدفه قيادة المجتمع بأسلوب ديكتاتوري يرفض المشاركة السياسية. فإلهام السياسي نقيض أنارشية الفوضية التي تسعى لتفتيت الدولة وهدم مؤسساتها للوصول لمرحلة الحرية الاباحية الرافضة للقوانين والأعراف المجتمعية والسياسية، دون دعوتها لبدائية قانون الغاب بل بالسمو الفطري لصنع مبادئ جنة الخلود على أرض الوعود أرض الحرية.

هذا يقودنا لمعرفة رأس المال الاجتماعي في مجتمعنا الذي انتقل سريعا من المخاتير والوجهاء ثم للحزب الواحد – رغم وجود أحزاب صغيرة لكنها لا تملك القدرة على التغيير السياسي منفردة- وصولا للقطبية الحزبية الحادثة الآن في أكثر من بلد عربي،  حيث أننا نملك حزبين رئيسين يحاول كل منهما الانفراد بالقرار السياسي دون أن يملك الأهلية لفعل ذلك، مما سبب عزوف شعبي عن المشاركة الفاعلة بالأنشطة السياسية وهو السبب الحقيقي في الأتيميا السياسية التي تعانيها الأحزاب السياسية.

إن الهروب الشعبي إلي الزاوية الصامتة تحوّل الجماهير الي شارع سياسي له الحق في قبول المطروح سياسيا، دون أن يمتلك القدرة على خلق واقع سياسي قادر على التعايش التعدددي بين الأحزاب، من غير ضرورة التجنيد السياسي لقرارات حزب معين، وهو تحدي الشعب لنفسه فقيمته الحقيقية في تعديل أي خلل يراه لا يمثل رأيه بعيدا عن تحفظات ممارسات السياسيين، فالتحرك الشعبي باتجاه تصويب المسار يقضي بالضرورة تصويب مسلكية السياسيين وآلية إتخاذهم القرارات السياسية.

هذا الوطن لهذا الشعب مقولة مقلوبة فهذا الشعب لهذا الوطن في معادلة الوطنية، فلا يسأل الشعب ماذا أعطاني الوطن؟ وماذا سأستفيد إن قمت بالتضحية من أجل وطني؟ لكن في زمن الاستهلاكية الأنانية يهدم الإنسان نفسه بنفسه ويصبح أضعف من أن يقول أنا إنسان حر، بل يتلفظها الكثيرون أن لقمة العيش صعبة وأن المطلوب يعتبر ترف أمام احتياجنا للخبز في نظرة متخلفة لقيمة الوطن للشعب.

إن الرأي الثالث المطلوب منا جميعا هو العمل المستمر من أجل وطننا دون إنتظار مقابل من أحد، لأننا نحن الشعب والوطن لنا وإذا فقد الوطن أبناؤه المخلصين الذين يعملون من أجله،  فإن الوطن بمكوناته الثلاثة: النظام السياسي والأرض والشعب كلها تسقط في أتيميا سياسية. إن الذين ينتظرون مقابل انتهازي نظير تقديمهم القليل من أجل وطنهم، لا يمكن أن يصبحوا أغلبية في مجتمع يعرف أنه يتحدى الصهيونية والامبريالية، وإن الوضع السياسي الداخلي المتأزم لا يعني الانطواء الأناني خلف المنفعة الشخصية وإهمال المصلحة العامة، بل أن القوى الشعبية هي الوحيدة القادرة على تعديل رأس مالها الاجتماعي.